لكي لا نعود إلى الوراء ..!!
حسين الرواشدة
جو 24 : هل يوجد في بلادنا ما يمنع المسؤول - أيا كان موقعه - من الاستغراق في مزايا الوظيفة واغتنام المنصب العام والتلذذ بخيرات موقعه؟ البعض سيقول، إنّ هناك قوانينَ تمنع وتردع، وجهاتٍ ومؤسساتٍ تراقب وتحاسب، هذا صحيح، ولكن من قال، إن هذه وحدها تكفي لسد ابواب التجاوزات التي ابتلينا بها في مراحل من تجربتنا في الإدارة والسياسة، ألم تكشفْ لنا الأيام - وما تزال -عن ملفات فساد بعضها فتحناه وبعضها ما زال معلقا بانتظار أنْ يأتيه الدور؟ ألم تفزعنا الأخبار التي تتحدث عن تجاوزات صادمة اقترفها فلان أو علان؟؟، فمشكلتنا اذن ليست مع القوانين وعيون الرقباء - وما أكثرها - وإنما مشكلتنا مع غياب الضمير العام اولا ومع تراجع فاعلية إرادتنا لإعادة النظافة إلى الوظيفة العامة وتحريرها من الكوارث البشرية التي حولتها الى (فرصة ) للكسب والنهب، ذلك ان الموظف الذي اصبح يشعر بأنّ الوظيفة مجرد جمعة مشمشية لن تطول كثيرا، أصبح بوسعه أنْ يكيف القوانين والتعليمات لتتناسب تماما مع “اجتهاداته” وانجازاته، وتبذيره للمال العام إذا لزم الأمر.
اخلاقيات الوظيفة العامة التي افتقدها مجتمعنا، كان يمكن أنْ تساعدنا في الخروج من “متاهة” التذاكي على الناس والقوانين وأجهزة الرقابة، فقد خبرنا موظفين كبارًا في بلدنا عاشوا وماتوا فقراء، وعرفنا آخرين ضربوا أروع الأمثلة في النظافة والحرص على المال العام، ولم نسمع أنّ من متطلبات “انجازاتهم” الوطنية تعيين عشرات المستشارين أو اقامة مؤتمرات تكلف مئات الآلاف أو البحث عن اي “مولد” دولي للسفر وقبض المياومات وممارسة السياحة والاستجمام على حساب الخزينة.
لكي نقنع الناس بأننا جادون في الإصلاح (حتى ولو كان بالتقسيط )، وأنّ عليهم أنْ يتحملوا مسؤولياتهم الوطنية وأنْ يصبروا وينتظروا الفرج، لا بد أنْ نعيد النظر في كثير من ممارسات المسؤولين وامتيازاتهم وعلاقتهم مع المجتمع على اساس انهم في خدمته لا العكس، وعلى أساس أنّ الوظيفة العامة تكليف وأنّ من يتولاها لايريد أنْ يحقق من خلالها مكاسب أو مغانم، وإنما هي جزء من الواجب المفترض أنْ يقوم به الإنسان الكفؤ والمؤهل دون أنْ ينتظر جزاء أو شكرا.
للأسف تراجعت مثل هذه القيم في مجتمعنا، لا لأن الناس تغيروا، وإنما لأن المناخات السياسية أغرت البعض على الامتثال لقيم جديدة مثل الشطارة والفهلوة واعتبار الموقع العام والوظيفة فرصة للنهب والإثراء وتحقيق الوجاهة المغشوشة.
هذه بديهيات نحتاج لتذكير البعض بها اليوم، وخاصة اولئك الذين يتصورون أنّ (مولد) الإصلاح انفض، واحتجاجات الشوارع تراجعت، وأنّ بوسع حليمة أنْ تعود لعاداتها القديمة، هؤلاء سامحهم الله لا يدركون أنّ عجلة الزمن لا تعود للوراء وأنّ الناس الذين عضوا على جروحهم انحازوا لحماية وطنهم من الطوفان الذي أغرق من حولهم، لا خوفا ولا طمعا، وانما انسجاما مع فطرتهم الوطنية، وكان يجب على المسؤول انْ يتعلم منهم، لا انْ يدفعهم مجددا الى الجدار.
قلت منذ أن انطلق قطار “الثورات” العربية، إنني أدرك تماماً بأن “التغيير” في بلادنا لن يأتيَ على جناح “البراق”، وبأن “الصبر” مطلوب لكي نتجنب اتهامات “حرق المراحل”، وقد التزم الشارع الأردني بهذه الفضيلة، وبدا “أعقل” من كثيرين ما زالوا يرون في “الاصلاح” كارثة، وفي مطالب الناس “تعسفاً” وسفاهة، لكن يبدو أن ما حصل كان مختلفاً تماماً، فبدل ان تتوقف التدخلات والتجاوزات في شؤوننا العامة زادت وتصاعدت، وبدل أن نبدأ بتبييض “الملفات” وتصفية الحسابات القديمة ووقف ما استفز الناس واغضبهم، استمر “المسلسل” كما كان، حلقة وراء حلقة، وبقي “الابطال” ذاتهم يتقافزون على المسرح، وحتى حين استبدل بعضهم، كان نسخة مطابقة تماماً لسلفه، وظل “المتفرجون” يصفقون كعادتهم.. لم يتغير أي شيء.
لقد هدأ الشارع، واقتنع الشباب (المتحمسون ) للتغيير بأن الزمن كفيل بالاجابة عن اسئلتهم ومطالبهم، وراهن آخرون على اننا تعلمنا من دروسنا ودروس غيرنا، وكل ما يريده الناس اليوم (وهم يتطلعون الى النيران التي اشتعلت حولهم ) ان يتوقف طابق “الفساد” وأن تبدأ مرحلة جديدة من النزاهة والاستقامة، فلا يعقل ان نتحدث عن الاصلاح ونحن نمارس المحسوبية في التعيينات، و”الازدواجية” في المقررات، و”الفساد” في معالجة “الملفات”، لا يعقل أن نقدم للناس “ادّلة” جديدة على “الاصلاح” ونحن نعرف انها مغشوشة، وأنها تتناقض تماما مع بدهيات الاصلاح وأبجدياته.
باختصار، اقولها وانا اشعر بمرارة، لكي لا نعود الى الوراء، ولكي لا يشعر الناس بالاحباط او الخيبة، ولكي ندفع باتجاه اهم ركيزتين يحتاجهما بلدنا وهما : الهمة والامل، لا بد ان نذهب فورا الى اصلاح اخلاقيات الادارة العامة، وإغلاق نوافذ الإغراء والإفساد و بناء المواطن الحر والعفيف والسيد، والى نبذ ثقافة اليد السفلى والاستجداء، نحتاج الى رموز وموظفين نظيفين ومقررات حاسمة تمنع الامتيازات الوظيفية وتصون المال العام وتنهي حالة استسهال مد اليد إلى المال العام، وإلى جيوب الناس ..وكرامتهم ايضا.
(الدستور)
اخلاقيات الوظيفة العامة التي افتقدها مجتمعنا، كان يمكن أنْ تساعدنا في الخروج من “متاهة” التذاكي على الناس والقوانين وأجهزة الرقابة، فقد خبرنا موظفين كبارًا في بلدنا عاشوا وماتوا فقراء، وعرفنا آخرين ضربوا أروع الأمثلة في النظافة والحرص على المال العام، ولم نسمع أنّ من متطلبات “انجازاتهم” الوطنية تعيين عشرات المستشارين أو اقامة مؤتمرات تكلف مئات الآلاف أو البحث عن اي “مولد” دولي للسفر وقبض المياومات وممارسة السياحة والاستجمام على حساب الخزينة.
لكي نقنع الناس بأننا جادون في الإصلاح (حتى ولو كان بالتقسيط )، وأنّ عليهم أنْ يتحملوا مسؤولياتهم الوطنية وأنْ يصبروا وينتظروا الفرج، لا بد أنْ نعيد النظر في كثير من ممارسات المسؤولين وامتيازاتهم وعلاقتهم مع المجتمع على اساس انهم في خدمته لا العكس، وعلى أساس أنّ الوظيفة العامة تكليف وأنّ من يتولاها لايريد أنْ يحقق من خلالها مكاسب أو مغانم، وإنما هي جزء من الواجب المفترض أنْ يقوم به الإنسان الكفؤ والمؤهل دون أنْ ينتظر جزاء أو شكرا.
للأسف تراجعت مثل هذه القيم في مجتمعنا، لا لأن الناس تغيروا، وإنما لأن المناخات السياسية أغرت البعض على الامتثال لقيم جديدة مثل الشطارة والفهلوة واعتبار الموقع العام والوظيفة فرصة للنهب والإثراء وتحقيق الوجاهة المغشوشة.
هذه بديهيات نحتاج لتذكير البعض بها اليوم، وخاصة اولئك الذين يتصورون أنّ (مولد) الإصلاح انفض، واحتجاجات الشوارع تراجعت، وأنّ بوسع حليمة أنْ تعود لعاداتها القديمة، هؤلاء سامحهم الله لا يدركون أنّ عجلة الزمن لا تعود للوراء وأنّ الناس الذين عضوا على جروحهم انحازوا لحماية وطنهم من الطوفان الذي أغرق من حولهم، لا خوفا ولا طمعا، وانما انسجاما مع فطرتهم الوطنية، وكان يجب على المسؤول انْ يتعلم منهم، لا انْ يدفعهم مجددا الى الجدار.
قلت منذ أن انطلق قطار “الثورات” العربية، إنني أدرك تماماً بأن “التغيير” في بلادنا لن يأتيَ على جناح “البراق”، وبأن “الصبر” مطلوب لكي نتجنب اتهامات “حرق المراحل”، وقد التزم الشارع الأردني بهذه الفضيلة، وبدا “أعقل” من كثيرين ما زالوا يرون في “الاصلاح” كارثة، وفي مطالب الناس “تعسفاً” وسفاهة، لكن يبدو أن ما حصل كان مختلفاً تماماً، فبدل ان تتوقف التدخلات والتجاوزات في شؤوننا العامة زادت وتصاعدت، وبدل أن نبدأ بتبييض “الملفات” وتصفية الحسابات القديمة ووقف ما استفز الناس واغضبهم، استمر “المسلسل” كما كان، حلقة وراء حلقة، وبقي “الابطال” ذاتهم يتقافزون على المسرح، وحتى حين استبدل بعضهم، كان نسخة مطابقة تماماً لسلفه، وظل “المتفرجون” يصفقون كعادتهم.. لم يتغير أي شيء.
لقد هدأ الشارع، واقتنع الشباب (المتحمسون ) للتغيير بأن الزمن كفيل بالاجابة عن اسئلتهم ومطالبهم، وراهن آخرون على اننا تعلمنا من دروسنا ودروس غيرنا، وكل ما يريده الناس اليوم (وهم يتطلعون الى النيران التي اشتعلت حولهم ) ان يتوقف طابق “الفساد” وأن تبدأ مرحلة جديدة من النزاهة والاستقامة، فلا يعقل ان نتحدث عن الاصلاح ونحن نمارس المحسوبية في التعيينات، و”الازدواجية” في المقررات، و”الفساد” في معالجة “الملفات”، لا يعقل أن نقدم للناس “ادّلة” جديدة على “الاصلاح” ونحن نعرف انها مغشوشة، وأنها تتناقض تماما مع بدهيات الاصلاح وأبجدياته.
باختصار، اقولها وانا اشعر بمرارة، لكي لا نعود الى الوراء، ولكي لا يشعر الناس بالاحباط او الخيبة، ولكي ندفع باتجاه اهم ركيزتين يحتاجهما بلدنا وهما : الهمة والامل، لا بد ان نذهب فورا الى اصلاح اخلاقيات الادارة العامة، وإغلاق نوافذ الإغراء والإفساد و بناء المواطن الحر والعفيف والسيد، والى نبذ ثقافة اليد السفلى والاستجداء، نحتاج الى رموز وموظفين نظيفين ومقررات حاسمة تمنع الامتيازات الوظيفية وتصون المال العام وتنهي حالة استسهال مد اليد إلى المال العام، وإلى جيوب الناس ..وكرامتهم ايضا.
(الدستور)