jo24_banner
jo24_banner

جدلية الديمغرافيا والتمثيل الفلسطيني في الاردن

د. حسن البراري
جو 24 : كتب الزميلان عريب الرنتاوي وحمادة الفراعنة مقالين في غاية الأهمية في صحيفتي الدستور والرأي بالترتيبب ينبغي التوقف عندهما لأنهما الأجرأ لغاية الآن في تقديم ما يمكن أن يكون مقاربة تتعامل مع الحساسية الديمغرافية في الأردن. فالتطرق لهذا الموضوع ينطوي على حساسية مفرطة عند الكثيرين وهناك من يخشى التهمة الجاهزة بالعنصرية أو الليكودية وهناك من يخشى المتطرفين عند الطرفين.

ويذكر أن لجنة إعداد نظام الانتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني القادم والتي تشكلت من مختلف الفصائل الفلسطينية بموجب تفاهمات المصالحة قد اجتمعت بعمان قبل أيام واتفقت على نظام جديد لانتخابات المجلس الوطني الفلسطيني على أساس التمثيل النسبي. وقد اقرت اللجنة مبدأ التوافق في عملية اختيار وليس انتخاب اعضاء للمجلس في الدول التي يتعذر تنظيم انتخابات فيها وهنا نتكلم عن ٢٠٠ عضو يمثلون الشتات الفلسطيني من مجموع ٣٥٠ عضوا هم المجموع الكلي للمجلس الوطني الفلسطيني. بمعنى أن غالبية الاعضاء سيتم اختيارهم!

لن يشارك الفلسطينيون في الأردن بعملية انتخاب المجلس الوطني الفلسطيني، فهناك توجه لاستبعادهم من كشوف الناخبين بسبب الحساسية الديمغرافية في الأردن على حد تعبير الزميل الرنتاوي. وفي هذا السياق يميز الزميل الرنتاوي بين الأردنيين من أصول فلسطينية وبين أكثر من مليون فلسطيني مقيم في الاردن لكنهم ليسوا أردنيين. فهم حسب القانون الاردني فلسطينيون بالكامل. ويطالب الرنتاوي أن يشارك هؤلاء في انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني لانه ليس هناك ما يمنع من ذلك من ناحية قانونية أو سياسية أو لوجستية. وهنا يقول الرنتاوي "لا يضير الأردن، بل يخدم مصالحه العليا أكثر من أي شيء آخر، إن هم مارسوا حقهم في اختيار ممثليهم إلى المجلس الوطني، فلماذا لا يقع التفاهم بين المنظمة والحكومة الأردنية من أجل تمكينهم من ممارسة حقهم الانتخابي، توطئة لتكريس حقهم في العودة إلى الضفة والقدس والقطاع، وجميعهم في الأصل يتحدرون من هذه المناطق المحتلة عام ١٩٦٧.”

نتفهم موقف الدولة الاردنية في السابق عندما كانت تمنع حتى اللاجئين من التعبير عن موقفهم في ذكرى النكبة وكانت تتصدى لكل نشاط فلسطيني على الساحة الاردنية على اعتبار أن الاردن ليس ساحة وعلى اعتبار أن الاردن كان يخوض حربا شرسة مع منظمة التحرير الفلسطيينة حول التمثيل، لكن المعركة حسمت بشكل لا رجعة عنه وأصبح الفلسطينيون يمثلون أنفسهم بشكل مستقل عن عمان. فالظروف تغيرت وبخاصة بعد فك الارتباط وبعد الانفراد الفلسطيني في قرار أوسلو وبعد أن اعترف العالم ومنه الاردن بأن هناك حق للفلسطينيين في تقرير مصيرهم على ترابهم الوطني. لذلك تساؤل الزميل الرنتاوي جاء في مكانه.

الزميل حمادة فراعنة كان اكثر تفصيلا للحالة الفلسطينية في الاردن ويبدو أن مقاله يصب في سياق محاولة تنفيس التوتر الديمغرافي في الاردن بشكل يريح الاردن ويكسب فلسطين ابناءها. فهو يقسم الفلسطينيين إلى ثلاثة شراح على حد تعبيرة. الشرحية الأولى تشمل اللاجئين الفلسطينيين لعام ١٩٤٨. وهؤلاء مواطنون اردنيون بالكامل حسب قانون الجنسية الأردني. وينبغي أن يمارس هؤلاء نضالا لمممارسة حق العودة المنصوص عليه في قرار الجمعية العامة ١٩٤ مع أن حقوقهم السياسية في الاردن يجب أن تكون مصانة، هؤلاء يجب أن يستمروا في التمسك بحق العودة لكن كمواطنين اردنيين حسب الزميل الفراعنة..وبشكل غير مباشر، يسلم الزميل الفراعنة بان عودتهم غير واردة، فهو يرى بأنه أصعب شيء ربما بسبب اصرار الإسرائيليين على يهودية الدولة وأن مبرر الصهيونية يستلزم اقصاء للفلسطينيين ويتطلب غالبية يهودية خالصة في دولة إسرائيل.

أما الشريحة الثانية فهم النازحون وهؤلاء لهم حق العودة غير المشروطة حسب اتفاقيات أوسلو كما أن هناك قرار مجلس امن يحمل الرقم ٢٣٧ يطلب باعادتهم إلى وطنهم في الضفة الغربية والقدس الشرقية. وهنا يطالب الزميل الفراعنة بعودة هؤلاء إلى الضفة الغربية والقدس الشرقية من خلال تنظيم عملية انتقال بين الاطراوف المعنية. أما الشريحة الثالثة فتشمل فلسطيني غزة المقيمين في الاردن وليس لهم أي صفة غير كونهم فلسطينين، وهنا يطالب حمادة فراغنة بعودة هؤلاء حسب مجموعة من المعايير والقيم التي اقترحها على أن يكون لهم الحق العودة للأردن كمواطنين فلسطينين اسوة بأي مواطن عربي آخر يعمل في الاردن.

لا أعرف مالذي دفع الزميلين لكتابة مقالات هذا الصنف لكن بالمحصلة يمكن أن يساهما في اجتراح حلول للمعضلة الديمغرافية في الاردن وتسحب البساط من تحت اقدام المعارضين للاصلاح بسبب الوجود الفلسطيني الذي "يهدد" هوية الدولة الاردنية. فالقضية تتعدى موضوع الهوية وتتعلق بوجود الدولة الاردنية بشكلها الحالي وهو ما كنت قد نبهت اليه في مقالات عديدة وهنا سأكتفي باعادة مقالة لي نشرت في صحيفة الحياة لتبين كيف يفكر الصهاينة وما هو موقع الاردن في التفكير الاستراتيجي الاسرائيلي.

أي قراءة متأنية وجادة لديناميكية المثلث الأردني- الفلسطيني- الإسرائيلي ستكشف عن حجم التحديات بل التهديدات الإستراتيجية الناتجة عن حراك هذا المثلث والتي ستواجه الأردن على المدى المتوسط.  ولا مناص هنا من إبداء عدة ملاحظات أساسية تتعلق بحجم التحدي.

فأولا، المعادلــة الوحيدة الناجزة في العلاقة مع إسرائيل هي أن الوقت يمر والأرض تضيع وفرص تحقيق حل الدولتين في تراجع مستمر. للأسف لم يستبطن العرب حقيقة أن الوقت لم يعد عاملا بل أصبح فاعلا لأن مرور الوقت دون حل يعني منح إسرائيل المزيد من الفرص لاستكمال بناء المشروع الصهيوني التوسعي والقائم على تكتيك صهيوني كلاسيكي يسعى لخلق حقائق على الأرض (fait accompli)، وهو أمر يتفهمه العقل الغربي الذي لم ينفك عن مطالبة العرب بأخذ الواقع في الحسبان وربما علينا أخذ العبرة من رسالة الضمانات الشهيرة التي بعث بها بوش إلى شارون.

ثانيا، المراهنة على التغيير في إسرائيل لإنتاج تحالف سلام لم تعد مجدية كما ظهر في الانتخابات الأخيرة. فديناميكية القوة السياسية والمجتمعية في إسرائيل والمتمثلة بالتركيبة البنيوية للنظام السياسي ونظام الانتخابات النسبي لا تعمل على دفع إسرائيل باتجاه حل الدولتين بالشكل الذي يستجيب حتى لمتطلبات الحد الأدنى للفلسطينيين. فقضية التنازل عن أرض للفلسطينيين هي قضية تمس جوهر السياسة الداخلية لا يمكن في ظل النظام القائم لأي رئيس حكومة أن يقوم بذلك دون أن يدفع ثمنا سياسيا باهظا أو ربما يدفع حياته ثمنا كما حصل مع رابين.

ثالثا، ثمة رومانسية مبالغ فيها لدى بعض المثقفين العرب عندما يتحدثون بشكل ساذج عن حل الدولة الواحدة. ففي مثل هذه الدولة الثنائية القومية ستقوم الديموقراطية بما لم تقم به الجيوش العربية أو المقاومة الفلسطينية وهو السيطرة على الدولة. فرصة تحقيق مثل هذا الحل السلمي متدنية جدا لأن مبرر وجود الحركة الصهيوينة هو يهودية الدولة وليس ديموقراطيتها. وهنا دعوة لقراءة الفكر الصهيوني وممارساته جيدا بدلا من الاختباء خلف التفكير والتحليل الرغائبي. فديناميكية المعضلة الديموغرافية وعدم إمكانية تحقيق حل الدولة الواحدة أو حل الدولتين وعدم قبول إسرائيل لمبدأ نظام الابرتهايد يضعنا أمام خيار واحد فقط وهو الترانسفير. فقد يأخذ شكلا غير تقليدي لكنه إن كان هو المخرج التاريخي للأزمة الصهيونية فما الذي سيمنع من تحقيقه؟ إيران مثلا!

رابعا، المراهنون على صمود الشعب الفلسطيني المشرذم ساسيا وغير المدعوم عربيا لا يقرأون التاريخ جيدا. ففي حرب 1948 خرج اللاجئون كما خرج نازحون في 1967. وهذا يعني أن للصمود الفلسطيني حدود وأن أي مواجهة شاملة سينتج عنها اعداد كبيرة من اللاجئين الجدد وربما ستزود إسرائيل بفرصة أخرى لإتمام مهمة حرب عام 1948، وربما هنا علينا قراءة ما يكتبه بني موريس في الأربع سنوات الأخيرة على الأقل.

خامسا، بالنتيجة فإن المتضرر الأول من عدم قيام دولة فلسطينية هو الأردن وليس غيره. وبالفعل بدأ البعض بالتفكير في خيارات كونفيدرالية لن يستفيد منها الأردنيون سوى مزيد من التهميش. فالكونفيدرالية ما هي إلا بمثابة تعبير مخفف عن الوطن البديل ولكن بمساحات مختلفة. وبهذا الصدد علينا أن نشير إلى أن العمل مع الفلسطينيين أيضا محبط: فلا السلطة الفلسطينية قادرة بينما هي متهمة من قبل الكثيرين بأنها ستفرط بالحقوق ولو كان ذلك على حساب الأردن، في حين ان حماس تسعى لتدمير حل الدولتين لأنها لا تريد إلا الأرض كلها وهذا يؤدي إلى فشل خيار الدولتين أمام هذا التشخيص، فإن السيناريو الأقرب هو أن تستمر إسرائيل في التوسع بشكل مستمر وعندما تحصل على الأرض التي تريد ستعيّن حدودها من جانب واحد وتقول للبقية هذه دولة فلسطين التي عندها لن تكون قابلة للحياة وسيعترض عليها الفلسطينون وسيقوم الجيش الإسرائيلي برفع كلفة المقاومة إن حصلت، وسيكون هناك ضغط عربي ودولي على الأردن للتدخل لرفع المعاناة عن الفلسطينيين. عندها تتحول القضية برمتها إلى حالة إنسانية!

لأردن الرسمي وعلى لسان الملك عبد الله ومنذ عام 2006 يقول إن حل الدولتين هو مصلحة الأردن العليا وأن الفشل في الحل سيعرض الأمن الوطني الأردني لضربة كبيرة. لغاية الآن لم تفلح الدولة الأردنية في تبني خطة بديلة (Plan B) في حال فشل عملية السلام. وقد سألت مرة رئيس الديوان الملكي آنذاك باسم عوض الله في جلسة عن خطط الأردن في حال فشل حل الدولتين، فلم يجب بل تهرب من السؤال، ما يوحي أنه ليس لدى المطبخ الأردني أي تصور استراتيجي أكثر من توصيف وتشخيص المشكلة. والوضع الداخلي في الأردن وضعف الجبهة الداخلية هما مصدر إزعاج يضاف إلى الموضوع الفلسطيني. فهناك انتهازية من قبل الحركة الإسلامية وهي تتصرف بشكل غير استراتيجي وربما غيبي، وهذا ليس من العمل الاستراتيجي بشيء.

والمفارقة أن النخب الأردنية غير الإسلامية غير قادرة على إنتاج أي خيار لأن المساحة العامة في النقاش والعمل السياسي هي إسلامية بامتياز. المطلوب تقوية الجبهة الداخلية وإدماج القوى السياسية الأخرى، وهذا لا يتم إلا بتبني إصلاحات سياسية معقولة وواضحة توازن بين ضرورة الإصلاح ومتطلبات الهوية الأردنية وما يضمن تحويل المساحة العامة لتكون أقل إسلامية. ربما هذه هي الطريقة الوحيدة لدفع الحركة الإسلامية لإعادة تفكيرها بخياراتها السياسية وطرح أيدلوجيتها الغيبية جانبا. هكذا يكون بناء مجتمع سياسي واع قادر على التصدي لما قد يحصل في المستقبل.

وبالإضافة إلى تصليب الجبهة الداخلية هناك ضرورة لتدريب الجيش الأردني للتعامل مــع سيناريوهات فشل خيار الدولتين. فالجيش العربي الوحيد الذي لم يهزم سوى مرة واحدة وربح كل معاركة الرئيسة مع إسرائيل من اللطرون والقدس وغوش عتصيون وباب الواد والكرامة هو الجيش الأردني. وهو بهذا المعنى جيش محترف يجب تدريبه على مهمات من نوع غير تقليدي لمنع اختراق حدود الأردن من البشر ومن العسكر بصرف النظر عن هويتهم. على الأردن أن لا يتعامل مع القضية الفلسطينية كقضية إنسانية بل من منطلق استراتيجي من الطراز الأول. والمطلوب أن يفكر الأردن مليّا بهذه الأخطار ويسعى بكل السبل للبحث عن خيار الدولتين، لأن ذلك في مصلحته أولا وأخيرا. وبما أن العمق العربي غير موجود وبما أنه لا يمكن الوثوق بالجانب الإسرائيلي ولا بالجانب الفلسطيني، فالمطلوب أن يستثمر الأردن علاقاته الاستراتيجية مع الولايات المتحدة ويسعى للحصول على رسالة ضمانات على شكل «وعد أوباما» تكون بمثابة تعهد دولي أن لا تتم تصفية القضية الفلسطينية على حساب أمنه حتى لو جاء ذلك على شكل خيار وحدوي فلسطيني أردني. وهنا دعوة لأن تركز الديبلوماسية الأردنية على واشنطن واستثمار العلاقة الاستراتيجية للحصول على رسالة ضمانات على غرار ما حصل شارون في الأمس القريب.

هذا ما كتبته قبل اكثر من عامين وهو برأيي ما زال صالحا، فإسرائيل تجنح لليمين وانفجار الربيع العربي يخلق تحديات لإسرائيل لكنه يخلق فرصا لحل بعض الملفات بشكل يهدد مصالح الاردن الاستراتيجية، فالمراقب يعرف أن هناك حدودا لقوة الاردن وأنه ليس للأخير تأثير في إسرائيل بشكل يمنع تل أبيب من التفكير في خيارات وسيناريوهات تستفيد من الانكشاف الاستراتيجي للاردن.
لهذا تكتسب طروحات الرنتاوي والفراعنة آهمية خاصة تجعل من مناقشة البعد الديمغرافي للعلاقة الاردنية الفلسطينية أمر صحيا بعد أن بالغ البعض في التطرق بشكل تحريضي على الاردن وقضية "سحب الجنسيات"، فكثرت التقارير التي تمول اجنبيا واستعمل البعض الآخر منابر صحفية عربية للتركيز على هذا النقطة متغاضين بشكل متعمد عن السياق العام الذي يحرك الأردن الرسمي تجاه هذا الأمر على وجه الخصوص. وربما النقطة الأهم هي منع العبث في الميزان الديمغرافي في الاردن عن طريق سحب الجنسيات من بعض المئات ومنح الاف جنسيات اردنية.

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير