أقفاص الكتابة!
خيري منصور
جو 24 : حين قرأت ذات يوم قصة للكاتب الفرنسي البيركامو عن فنان يحاول الانفراد بنفسه بعيداً عن أسرته ومجمل علاقاته الاجتماعية، لم أصدق أن تلك القصة واقعية، فقد اضطر أخيراً الى بناء قفص كبير يتسع له، وعلقه على شجرة بعيداً عن المدينة كي يتفرغ لعمله، وبالفعل هناك شاعر امريكي فعل ذلك، هو «كمنجز» الذي بنى لنفسه عشاً على شجرة عملاقة.. واصبحت الطيور تمر من حوله ومن فوقه وهي تثرثر على طريقتها، حيث لا نميمة ولا ضجيج بل زقزقة ناعمة. وأذكر أيضاً أن أحد الكتاب قال بأن الآخرين يعتقدون بأن العمل يدوي وأن الانسان الذي يستلقي على أريكة مغمض العينين دون أن ينام هو عاطل عن العمل.
لهذا كان يرى بأن هناك أفراداً وربما جماعات بشرية تكدح طيلة العمر لكنها عاطلة عن العمل بمقياس آخر، وهو الحياة ذاتها.
فالنمل والنحل امبراطوريات بالغة الصرامة والتنظيم والتراتبية في حياتها وهي دؤوبة الى حدّ لا يبلغها بشر، لكنها في نهاية المطاف بلا تاريخ لأن ما يوجه بوصلتها هو الغرائز والسعي من أجل البقاء.
فلو قرر الكاتب العربي أن يعيش حياته اليومية تحت سطوة التقاليد والمجاملات لقضى ربع الوقت في الأعراس والجاهات وبيت العزاء، والربع الثاني في مطاردة لقمة العيش والربع الثالث في النوم، أما الربع الرابع ففي الدفاع عن حقه في العزلة، وهكذا لا يتبقى له غير الربع الخامس ليواصل عمله خلاله، وهو بالطبع ربع محذوف من الزمن.
لم أكن أتصور أن مهنة الكتابة في بلادنا تعاني من كل هذا الغموض والالتباس والاستخفاف، فهي تبدو أحياناً كما قال هنري ميلر عن أمه التي كانت تسخر من قضاء وقته في القراءة والكتابة وتقول له أنه يصنع فاصولياء من الطين، تماماً كما قالت سيدة عجوز لكارل ماركس وهو يكتب راس المال.. ان من الأجدى له أن يجمعه بدلاً من أن يكتب عنه، ولو كان الكاتب العربي صريحاً لذهب الى أبعد من كل هذا، لكنه يخجل ويراوغ ويضطر الى ابتلاع ما يحدث له كما لو كان شوكاً أو سكيناً.
فإلى متى سوف يستمر هذا الغموض والالتباس حول مهنة ربما كانت الأقدس والأعظم في تاريخ الانسان؟
آخر ما حدث معي هو أن سيدة ايرانية بحثت عني واستطاعت التوصل الى هاتف المجلس البلدي في قريتي لسبب يتعلق بأطروحة جامعية تتعلق بي، وحين هاتفني صديق من هناك كان معي شخص متعلم وعندما سمع المكالمة سألني عن الأمر فشرحت له ما سمعت وفاجأني.. كم سوف تكسب من المال في هذه المهمة؟
بقيت صامتاً وتسلل إليّ الشك بأننا بالفعل نصنع فاصولياء من الطين أو تماثيل من الثلج.
انها مهنة تبدو ثانوية بل هواية لتبديد الفراغ، وفي أحسن الحالات مقاعد هشة ذات سيقان لا تقوى على حمل عصفور في مداخل البيوت بهدف الزينة.
(الدستور)
لهذا كان يرى بأن هناك أفراداً وربما جماعات بشرية تكدح طيلة العمر لكنها عاطلة عن العمل بمقياس آخر، وهو الحياة ذاتها.
فالنمل والنحل امبراطوريات بالغة الصرامة والتنظيم والتراتبية في حياتها وهي دؤوبة الى حدّ لا يبلغها بشر، لكنها في نهاية المطاف بلا تاريخ لأن ما يوجه بوصلتها هو الغرائز والسعي من أجل البقاء.
فلو قرر الكاتب العربي أن يعيش حياته اليومية تحت سطوة التقاليد والمجاملات لقضى ربع الوقت في الأعراس والجاهات وبيت العزاء، والربع الثاني في مطاردة لقمة العيش والربع الثالث في النوم، أما الربع الرابع ففي الدفاع عن حقه في العزلة، وهكذا لا يتبقى له غير الربع الخامس ليواصل عمله خلاله، وهو بالطبع ربع محذوف من الزمن.
لم أكن أتصور أن مهنة الكتابة في بلادنا تعاني من كل هذا الغموض والالتباس والاستخفاف، فهي تبدو أحياناً كما قال هنري ميلر عن أمه التي كانت تسخر من قضاء وقته في القراءة والكتابة وتقول له أنه يصنع فاصولياء من الطين، تماماً كما قالت سيدة عجوز لكارل ماركس وهو يكتب راس المال.. ان من الأجدى له أن يجمعه بدلاً من أن يكتب عنه، ولو كان الكاتب العربي صريحاً لذهب الى أبعد من كل هذا، لكنه يخجل ويراوغ ويضطر الى ابتلاع ما يحدث له كما لو كان شوكاً أو سكيناً.
فإلى متى سوف يستمر هذا الغموض والالتباس حول مهنة ربما كانت الأقدس والأعظم في تاريخ الانسان؟
آخر ما حدث معي هو أن سيدة ايرانية بحثت عني واستطاعت التوصل الى هاتف المجلس البلدي في قريتي لسبب يتعلق بأطروحة جامعية تتعلق بي، وحين هاتفني صديق من هناك كان معي شخص متعلم وعندما سمع المكالمة سألني عن الأمر فشرحت له ما سمعت وفاجأني.. كم سوف تكسب من المال في هذه المهمة؟
بقيت صامتاً وتسلل إليّ الشك بأننا بالفعل نصنع فاصولياء من الطين أو تماثيل من الثلج.
انها مهنة تبدو ثانوية بل هواية لتبديد الفراغ، وفي أحسن الحالات مقاعد هشة ذات سيقان لا تقوى على حمل عصفور في مداخل البيوت بهدف الزينة.
(الدستور)