jo24_banner
jo24_banner

لا يكفي ان نتلاوم ..يجب ان نتصارح..!!

حسين الرواشدة
جو 24 : حين تتراجع الحكومات عن القيام بدورها ، يُفترض ان تنهض المجتمعات ، بمؤسساتها وأحزابها وبناها الاجتماعية ، لسدّ الفراغ وتعوض النقص ، وفي تاريخنا العربي والاسلامي دعك من تجارب الامم الاخرى نماذج كثيرة اثبت فيها المجتمع ذلك.

خذ مثلا نظام الوقف الذي ازدهر في العصور التي انشغلت فيها الدولة بالفتوحات والحروب ، او انسحبت من بعض وظائفها ، مما دفع الاثرياء والمحسنين الى وقف اموالهم واملاكهم لحساب التكافل مع الناس ، ورفد عجز الدولة اذا عجزت عن الإنفاق.. وهكذا ، وخذ - ايضا - تجربة المذاهب الاسلامية التي خرجت من المجتمع وهي اقرب الى الاحزاب السياسية في عصرنا وكيف ساهمت في اثراء الواقع الفقهي والفكري واصلاح المجتمع رغم ما واجهته من قبل السلطة السياسية آنذاك من ضغوطات ومضايقات.

اذا دققنا في حالة الوقف في مجتمعنا سنكتشف ان الناس ما زالوا يتذكرونه، لكن -للاسف- في اتجاهات لا تراعي الاولويات التي نحتاجها ،خذ مثلا:يوجد في بلدنا نحو سبعة آلاف مسجد ، بمعدل مسجد واحد لكل الف مواطن ، وتقول وزارة الاوقاف بأن المعدل السنوي لبناء المساجد يبلغ (200) مسجد في السنة ، هذا بالطبع يعكس اهتمام الموسرين “بالتبرع” والتطوع لبناء المساجد ، تعبيرا عن “حالة” التدين المتصاعدة ، وتجسيدا لمفهوم العبادة التي اختزلت - للاسف - في هذا الجانب دون غيره.

لكن هل سألنا انفسنا : كم يبلغ عدد دور الايتام في بلادنا ، وما هو حجم “الوقف” الاسلامي في مجالات مثل: التعليم والصحة ، ولماذا لا يقبل “الواقفون” على التطوع لبناء “دار سينما” اسلامية ، او مسرح اسلامي ،( سيقال ان هذا منتهى الرفاهيه..!) أو - حتى - مأوى للفقراء ومجهولي النسب أو مدارس وجامعات ومستشفيات.. ؟؟ لماذا تذهب الاموال - معظمها - لبناء المساجد مع أن لدينا فائضا فيها ، ومع ان الصلاة - بالنسبة للمسلم - تجوز في أي مكان وصعيد ، ومع ان الهدف من “البناء” والعمران هو الانسان لا المساجد ، فيما يتردد اخواننا الموسرون - ونحن ايضا من مستوري الحال - عن دفع الصدقات أو التبرع بما زاد من مال ، لاقامة ما يحتاجه مجتمعنا من مؤسسات او مصانع منتجة أو دور رعاية للمكفوفين او ذوي الاحتياجات الخاصة أو غير ذلك من المجالات التي نفتقدها ونحتاج اليها (لا تقل ان ذلك مسؤولية الدولة فالجميع مسؤول ايضا).

ارجو ان ندقق في هذه الارقام : لدينا في الاردن نحو “700” الف شخص يعانون من الاعاقة، بمعنى ان نحو “12%” من الاردنيين مسجلون في قوائم ذوي الاحتياجات الخاصة (النسبة قدرت في عام 2004 – حسب التعداد العام للسكان في الاردن – بنحو “1.2” بالمئة، فيما قدرها البنك الدولي ما بين 4-6 بالمئة، اما منظمة الصحة العالمية فذكرت ان النسبة نحو “10” بالمئة) الى جانب ذلك، لدينا في الاردن – حسب دراسة اعدها المجلس الاعلى للعلوم والتكنولوجيا عام 2010 نحو “مليون” شخص يعانون من الاضطرابات النفسية، وهم يشكلون ما نسبته “17%” من مجموع السكان ولدينا بالطبع فقر وبطالة بين الشباب المؤهلين للعمل وجرائم بانواعها ومخدرات ..الخ ( هذه الارقام بالطبع سجلت قبل ان يصل عدد السكان في بلادنا الى نحو 10 مليون نسمة وقبل ان تداهمنا موجات اللجوء وقبل ان تصفعنا عواصف الخريف العربي) و السؤال :هل فكرنا مثلا في هؤلاء ،وهل تذكر الواقفون او المتطوعون هذه المشكلات التي تجعل من مجتمعنا شبه عاجز عن القيام بدوره ،ثم على من تقع المسؤولية؟ صحيح ان من واجب الحكومات ان تنهض بهذا الدور لكن ماذا لو قصرت ؟وما ذنب هولاء المحتاجين؟ وهل يعقل ان نظل نتفرج على مجتمعنا وهو يعاني دون ان تتحرك ضمائرنا وايدينا لانقاذه.

في تجربتنا التاريخية( من المؤسف اننا سنظل اسرى للماضي) الدور الكبير الذي نهضت به قوى المجتمع ، حين كان حيّا ونابضا بالحركة ، ، يكفي للاجابة على ذلك ، خذ مثلا ما قام به المصرف المصري مثلا ومؤسسة( اسمه طلعت حرب ) في التنمية التي حصلت في مصر ، ودور الرباطات التي انشأنها المتصوفة في بلادنا العربية لاعانة الفقراء والمساكين ، ودور النهضة السياسية التي ارتبط بمرحلة الاصلاح وروادها امثال الافغاني ومحمد عبده وغيرهم.. الخ، وخذ مثلا الجامعات في الغرب التي تعتمد على اموال الواقفين والمتطوعين ، والمنظمات الانسانية التي توجهت هناك الى رعاية الحيوانات بعد ان فرغت من مهمة الرعاية للناس في بلدانها.

للاسف ، نحن استقلنا من هذا الدور ، وبتنا اليوم نشعر بأن الحالة التي انتهت إليها مجتمعاتنا تبعث على الشفقة ، خاصة بعد ان دخلت علينا رياح الخصخصة ، واستقالت الحكومات من كثير من ادوارها ، وتركت الناس يتامى امام غول الاسواق وارتفاع الاسعار ، وفوضى المستثمرين الجدد، وما طرأ على قيمنا من تحولات وتشوهات.

كان يفترض ان يبدع المجتمع ، بما يمتلكه من وسال وأدوات ، ردودا مقنعة على تساؤلات الناس الحائرة ، وان يجد ما يناسب من بدائل لتعويض الانسحاب الذي حصل ، الاحزاب - مثلا - كان يمكن ان تستفيد من تجربة المذاهب الاسلامية ، الاثرياء كان يمكن ان يحييوا تجربة الوقف ، مؤسسات المجتمع الاخرى والنقابات والجمعيات كان يفترض ان تمارس دور الحسبة والرقابة وان تفعل حضورها للجم التشوهات التي اصابت البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، النخب - ايضا - كان يجب ان تنهض لبناء مشروع الاصلاح او توجيه الناس نحو خياراتهم وحقوقهم الطبيعية او الدفاع عن مصالحهم.

هذا لم يحدث مع الاسف ، ما فتح الباب امام حالة من الفوضى الاجتماعية ، والفقر السياسي ، والتشوهات ، والازمات الاقتصادية: حالة - ان شئت - من الشعور بالتيه واليُتم والقلق ، عبّرت عن نفسها - احيانا - بالجنوح الى العنف ، او - احيانا اخرى - بالانسحاب من العمل العام والحياة والسياسة ايضا ، وانتهت بالناس الى البحث عن بدائل ذاتية ، تجاوزت المؤسسات والقوانين والتقاليد ، ورسخت وعيّا جديدا من الاعتماد على الذات بصورته السلبية ، او صورا من الانتقام اللاشعوري من المجتمع ، او احوالا من البؤس الاجتماعي والعودة الى الدوائر القديمة لحل ما ينشأ من مشكلات ، او مواجهة ما يستجد من اخطار.

لقد تزامن - للاسف مرّة اخرى - تهميش دور الحكومات وتقليص واجباتها ، مع تهميش دور المجتمع وضرب بُناه ورموزه ومؤسساته ، الامر الذي ترك الناس وحيدين في مواجهة الواقع ، بكل ما فيه من نوازل ومصائب ، ومواجهة المستقبل بكل ما يطرحه من اسئلة مزعجة ، وقد زاد الطين بلّة - كما يقال - ما طرأ من ازمات على كافة المستويات فيما يتعلق بحياة الناس. وما وصلنا من بضائع ثقافية وسياسية أصبحت سمة لهذا للعصر الذي لم نتمكن من التصالح معه ، او التعايش مع مخرجاته الجديدة.

بدل ان نشكو ونتلاوم يجب ان نصارح انفسنا ونسأل: ماذا حدث للناس في مجتمعنا؟ ولماذا انتهوا الى هذه الحالة؟ هذان السؤالان يستحقان ان نتوقف امامهما بمزيد من المكاشفة والفهم ، وان نجيب عليهما بمنتهى الاخلاص والامانة قبل ان تداهمنا الازمات او ننشغل بمزيد من السجالات ، او نغمض عيوننا على الخلل وكأن كل شيء على ما يرام.


(الدستور)
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير