jo24_banner
jo24_banner

«موناليزا» حوران

أحمد حسن الزعبي
جو 24 : كخوف العناصر على الرموز..حرصت عليها إلا تنكشف أو تنعرف للعموم... فبقيت طوال سنوات عشر أواريها بأنفاسي ، أخبئها بين خنادق العبارات وملاجىء التعبير ،أموّه حضورها بالحزن المموج تارة ، وبالفرح «الأخضر» المكشوف تارة أخرى ،منذ سنوات عشر اخترت لها اسماً حركياً أوقّع فيه نهايات مقالاتي في الرأي، فكلما حاصرني اليأس أو هاجمني التكميم ..صرخت على الورق غطيني يا «كرمة العلي» ما فيش فايدة..فأرتاح وأدفأ بها..
شيخة عواد العبد الرزاق الزعبي أو كرمة العلي لا فرق..هما تنوين الضمّ الذي يحضنني كلما اشتدّت عليّ غربة الحرفِ..هما اليد التي كانت ترتجف عند رشفة الماء او تحاول أن تعرج باسمي الى السماء، هما الصوت المبحوح بالمرض ، وهما عزّة الجواد اذا ما نهض..شيخة العواد او كرمة العلي لا فرق..علمتاني الا ان انحني ابداً حتى لو سقط نصفي..والا أفاوض على روحي وان استمرّ نزفي ..شيخة العواد او كرمة العلي لا فرق...»موناليزا» حوران ..وسنبلة حزيران..هكذا بسرعة ودون موعد مسبق قررتا الرحيل عني الى الأبد ...
ظهر الخامس من حزيران..كنت أقف على سريرها في الـــ «I c u»..أمسك بقضبان السرير، كسجين ضجر..أستنهض الهمم من عينيها..أخاطب وجهها الدافيء وأنفاسها المتعبة بصمت ، هيّا تعافي بسرعة يا غالية...لتعودي معنا الى الدار،ملابسك ما زالت على الكرسي الخلفي من السيارة ،ومخّدتك على طرف السرير ، و»باكورك» ما زال مسنوداً الى الباب ينتظر قطرات الوضوء لتطفىء عطشه الأزلي... هيا تعالي معنا نجلس كل صباح كما كنا...اقبل وسادة عينيك أسالك عن «نومة» الأمس، أفتح لك شريط «الليزكس» واناولك حبتين..وأذكّر بحبّة «حماية القلب»...يااااه كيف لم يخطر ببالي أن احمي قلبي من حبّك يا غالية!!.....تعالي نمشّط الضحى بقهوة يديك كما كنا قبل سنتين..تعالي نلف المسبحة مرتين وثلاثة والفا... تعالي معنا فالأولاد بانتظارك، بانتظار تقبيل يديك المطرزتين بوذمات الحقن ، ارجوك تعافي لتعطيهم «ليرة الأسبوع» أو قبلة الليل المغمّسة بالدموع..
في الــ (I C U ) كنت اخاطب عينيها المعلّقتين بالسقف ، اتأمل جديلتها النحيلتين...تعرّقت يداي على قضبان السرير دمعاً مالحاً، بينما أنفاسها لم تزل تصعد وتنزل كأنفاس غزال يهرب من حتفه...استجمعت قواها أمسكت بإصبعيّ الشاهد والأوسط..همست من تحت كمامة الأكسجين «يا احمد...يا احمد»...قلت لها : والدموع تغرق عيني ..عيون احمد..لكنها لم تكمل ..لقد منعها المرض ان تكمل عبارتها الأخيرة ...بعد ثوانٍ عادت وأمسكت قميصي وشدتني إليها...قرأت من نظراتها رواية الحياة ..كأنها تقول..( ساعدني...على حبكم.. ساعدني على الحياة...قل للموت أنّي أعشق العيش)...ليت العمر يا عمري يشتري أو يفاوض لفعلت دون ان يهدل من تحت الأجهزة صوتك المبحوح..
عند العاشرة مساء...تكاسل جفناها كما لو ان النعاس يغالبها في غرفتها العسلية...هرب النبض من جهاز الضغط فجأة ..نظرت الينا جميعاً وغفت غفوتها الأبدية...شيخة العواد..موناليزا حوران.. ماتت...
سيظل الخامس من حزيران «نكستي» الشخصية فانا شعبك المهجّر يا أمي وأنت الوطن...وانت البياض الأنقى وأنا الكفن...سيظل الخامس من حزيران الجرح الغائر في حلم العصافير ووجه البيادر...صحيح ان «صاحبة الشنبر» رحلت من غير أن تودّعني...فلا عاد يسأل عن موعد عودتي أحد..وما عاد يسأل عن عمري الموجوع أحد ولا عن مقالي القادم أحد ...صحيح أن قطرات العينين استحالت دموعاً في قوارير ..صحيح أن ثيابك المعطّرة ما زالت مسجاة في «ألجوارير»...لكن فِراشُك لم يزل دافئاً في العين وفي قلبي الصغير...
اسمحي لي يا حبيبتي أن امارس جنوني من جديد...اسمحي لي أن أزاول طقوسي الصباحية كمان كنت..فور استيقاظي...أتوجه الى المقبرة القي تحية عسكرية لقبرك وقبر والدي..أقبل «النصيبتين» كما كنت اقبل جباهكما...ثم أتوارى بالفراغ...من منكما أحق بالتحية العسكرية وأنتما أعظم زعيمين في التاريخ يهزمان جيوش الفقر والحزن والكدح والوجع بــسلاح أوحد زناده : «يا الله»...
صديقي الحبيب حسين العموش... كتب فور وفاتها « كرمة العلي حين تموت»...وها انا أكتب كرمة العلي حين تحيا...كرمة العلي أو شيخة العواد التي تهزّ الغربال بيديها وتقطع أذرع الحطب لتشعل الطابون...كرمة العلي او شيخة العواد التي تسقي بعينيها الشمس لتشرق من وجه كانون...وتخبز القمر «كماجا» اذا ما جاع الليل.. كرمة العلي أو شيخة العواد ...التي كانت تسرب القمح بإصبعين نحيلين كتاجر ذهب ، كانت تطفىء بابتسامة الطيبات أكبر جذوات الغضب...كرمة العلي او شيخة العواد التي كانت لا تنسى حتى سنونو الدار من رعايتها..فتترك له في قاع الغربال حفنة ..كرمة العلي أو شيخة العواد...عين الوطن التي لا يطبق للحظة جفنه...كرمة العلي او شيخة العواد لم تمت...لأنها في»قلوب ابنائها الأردنيين» جميعاً جميعاً...ببساطة لأن شيخة العواد او كرمة العلي ...خُلقت لتحيا....
أخيراً قبل أن أقول بأمان الله يمّه...افرشي لي ردنك يا حبيبتي! احتاج لغفوة على كفّك..فأنا المنسي من كل شيء الا من عطفك....
بأمان الله يا حبيبتي....
ابنك احمد الحسن....
*شكر خاص للطبيب الإنسان والصديق د. فواز عماري والطبيب الانسان ليث دحابرة والآنسة انصاف شويات..على ما قدّموه لها في الأيام الأخيرة من كفاحها ضد المرض..

الرأي
تابعو الأردن 24 على google news