دمنا والذاكرة الرملية !!
خيري منصور
جو 24 : كتب نزار قباني في هوامشه على دفتر النكسة العام 1967: حرب حزيران انتهت كأن شيئاً لم يكن.. ومنذ ذلك الوقت وكل ما يحدث ينزلق عن السطح المصقول لذاكرة أشبه بالغربال، وكأننا نعيش بسايكولوجيا المتسولين الذين لا يفكرون بما هو أبعد من الوجبة القادمة.
ونحن في حِلٍّ من التذكير بأن اجتياح لبنان العام 1982 انتهى وكأن شيئاً لم يكن، وكذلك المجازر الموسمية التي لم تسلم منها أرض عربية من سماء الخرطوم إلى حمام الشط بتونس مروراً بشارع فروان ببيروت حيث كما قال نزار نفسه.. كانت تموت الخيول الجميلة! فما سرُّ هذا الطلاق البائن بين الوعي والواقع الذي يحاصره؟ وهل أفلحت خمسة عقود عجاف بتدجين هذا الكائن بحيث تحوَّل من نمرٍ إلى خروفٍ؟
ولإبطال العجب مما يجري أمامنا ونراه بالعين المجردة علينا الكشف عن السبب، وهو ليس لغزاً يحتاج إلى عبقرية لتفكيكه، انه باختصار استراتيجية تجريف للعقل استمرت عدة عقود، تسللت خلالها فيروسات دمرت المناعة حتى آخر كرية دم بيضاء، فالإنسان الذي يجد نفسه من المهد إلى اللحد في عراء هذا العالم وعليه أن يكدح بيديه وقدميه للحصول على الحد الأدنى من متطلبات الغرائز ليس لديه من فائض الوقت أو الرفاهية بحيث يفكر بأمور معنوية فالكرامة التي نعزف على وترها فقدها في عقر وطنه وما ألحقه به ذوو القربى كان أنكى من أي أذى آخر، لهذا انكفأ داخل شرنقته، ولم يعد يرى أبعد من جدران بيته، فهو وطنه وعالمه وحين يفقد الإنسان آدميته والوعي بضرورته وجدوى وجوده يصبح علم بلاده بالنسبة إليه قطعة قماش ولا مانع لديه إن كان فقيراً ومعدماً أن يستر عورته به!
فهل نردد بعد سبعة وأربعين عاماً مع نزار.. حرب غزة انتهت وكأن شيئاً لم يكن! أم أن ما لا نراه هو الأبقى مما نراه والمخفي أعظم!
إن معظم ما يكتب ويثبت في مواسم الدم يتكرر على نحو أفقده مفعوله وصلاحيته، إذ يكفي أن نغير تاريخ النشر أو البث بحيث تبدو الكلمات التي اهترأت من فرط الاستخدام مجرد أسراب من النمل على الورق!
وإذا كان لكل مريض ملف لدى طبيبه أو الجهة التي تعالجه فإن المريض العربي لا ملفات له ولا تاريخ معالجة، لأنه ما يزال يعالج الفالج بـ»كاسة» الرجفة، والأورام الخبيثة بكمادات الماء البارد.
فأية ذاكرة رملية أو أشبه بغربال تلك التي يتسرب منها كل هذا الدم؟؟
(الدستور)
ونحن في حِلٍّ من التذكير بأن اجتياح لبنان العام 1982 انتهى وكأن شيئاً لم يكن، وكذلك المجازر الموسمية التي لم تسلم منها أرض عربية من سماء الخرطوم إلى حمام الشط بتونس مروراً بشارع فروان ببيروت حيث كما قال نزار نفسه.. كانت تموت الخيول الجميلة! فما سرُّ هذا الطلاق البائن بين الوعي والواقع الذي يحاصره؟ وهل أفلحت خمسة عقود عجاف بتدجين هذا الكائن بحيث تحوَّل من نمرٍ إلى خروفٍ؟
ولإبطال العجب مما يجري أمامنا ونراه بالعين المجردة علينا الكشف عن السبب، وهو ليس لغزاً يحتاج إلى عبقرية لتفكيكه، انه باختصار استراتيجية تجريف للعقل استمرت عدة عقود، تسللت خلالها فيروسات دمرت المناعة حتى آخر كرية دم بيضاء، فالإنسان الذي يجد نفسه من المهد إلى اللحد في عراء هذا العالم وعليه أن يكدح بيديه وقدميه للحصول على الحد الأدنى من متطلبات الغرائز ليس لديه من فائض الوقت أو الرفاهية بحيث يفكر بأمور معنوية فالكرامة التي نعزف على وترها فقدها في عقر وطنه وما ألحقه به ذوو القربى كان أنكى من أي أذى آخر، لهذا انكفأ داخل شرنقته، ولم يعد يرى أبعد من جدران بيته، فهو وطنه وعالمه وحين يفقد الإنسان آدميته والوعي بضرورته وجدوى وجوده يصبح علم بلاده بالنسبة إليه قطعة قماش ولا مانع لديه إن كان فقيراً ومعدماً أن يستر عورته به!
فهل نردد بعد سبعة وأربعين عاماً مع نزار.. حرب غزة انتهت وكأن شيئاً لم يكن! أم أن ما لا نراه هو الأبقى مما نراه والمخفي أعظم!
إن معظم ما يكتب ويثبت في مواسم الدم يتكرر على نحو أفقده مفعوله وصلاحيته، إذ يكفي أن نغير تاريخ النشر أو البث بحيث تبدو الكلمات التي اهترأت من فرط الاستخدام مجرد أسراب من النمل على الورق!
وإذا كان لكل مريض ملف لدى طبيبه أو الجهة التي تعالجه فإن المريض العربي لا ملفات له ولا تاريخ معالجة، لأنه ما يزال يعالج الفالج بـ»كاسة» الرجفة، والأورام الخبيثة بكمادات الماء البارد.
فأية ذاكرة رملية أو أشبه بغربال تلك التي يتسرب منها كل هذا الدم؟؟
(الدستور)