التطفل على التاريخ عبر دراما مشوهة..مسلسل "عمر" انموذجا
المحرر الفني - بعيدا عن الخلاف الدائر حول فكرة تجسيد الصحابة في مسلسل تلفزيوني، إلا ان مسلسل "عمر" الذي تعرضه شاشة الـ mbc لم ينجح في خدمة الفكرة التي انفق من اجلها 24 مليون دولار بهدف تعريف الناس بشخصية الصحابي الجليل عمر بن الخطاب.
الملايين التي تم إنفاقها على هذا المسلسل التلفزيوني لم تؤد إلى بلوغ المستوى المطلوب للتعاطي مع تلك الحقبة التاريخية بالغة الأهمية، حيث لم يتجاوز المسلسل كونه محاولة إعادة إنتاج غير موفقة لفيلم الرسالة.
محاولة محاكاة فيلم الرسالة كانت واضحة في عثرات المسلسل الذي ارتأى مؤلفه أن يختلف في سرد الوقائع والاحداث مع تلك التي تضمنها الفيلم بعض الشيء، ما أربك المشاهد دون ان يؤدي ذلك إلى منح الذاتية التي من شأنها أن تخرج مسلسل "عمر" من نطاق المقارنة مع "الرسالة".
عند مشاهدتك لمسلسل "عمر"، اول ما يخطر ببالك هو تلك المقارنة بينه وبين فيلم الرسالة الذي انتجه المخرج السوري العالمي مصطفى العقاد، منذ اكثر من ثلاثة عقود، من نسختين واحدة بالعربية وأخرى بالإنجليزية دون ان تتجاوز كلفتهما العشرة ملايين دولار.
ورغم كلفته العالية، لم ترق الموسيقى التصويرية في مسلسل "عمر" لذوق المستمع العادي، على العكس من الموسيقى التصويرية في فيلم الرسالة والتي رشحته لنيل جائزة الأوسكار، حيث استطاع العقاد من خلال ذلك الفيلم أن يستحوذ على عقل وقلب المشاهد، ليعيش تلك الحقبة التاريخية متأثرا بكافة تفاصيلها، ويختبر كافة تقلبات المشاعر أثناء تفاعله مع شخصياتها التاريخية، بعد أن حقق الممثلون نجاحا باهرا في تجسيدها.
التفاعل مع الشخصية يعد اهم أركان الفكرة التي استند إليها المخرج حاتم علي في تجسيد شخصية عمر بن الخطاب بعمل تلفزيوني، إلا ان الفنان السوري سامر إسماعيل لم يتمكن من إقناع المشاهد بأدائه، كما أن عدد المشاهد التي يظهر بها خلال حلقات المسلسل أقل من عدد المشاهد التي تظهر بها شخصية ابو سفيان او بلال الحبشي على سبيل المثال، الأمر الذي يتناقض مع فكرة جعل شخصية عمر بن الخطاب هي الشخصية المحورية في هذا المسلسل الذي لم يكن سوى عرض غير مشوق للسيرة النبوية.
بريق الاكسسوارات الذي صور المزاج العام لمسلسل "عمر"، لم يكن له أن يتستر على مواطن الخلل التي شوهت التسلسل الدرامي عبر قفزاته غير المبررة لتجاوز الأحداث.
وكان غياب عنصر التشويق أهم عناصر الخلل في بينية هذا العمل الدرامي الذي يفتقر إلى الحبكة الجيدة وإلى الثيمة الرئيسية على حد سواء، نتيجة تشتت مشاهده وإيغاله في الحشو والتجريب.
المغالاة في التجريب أفرغت المسلسل من عناصر القصة، وشتتت الحوار، ناهيك عن ضعف اداء الممثلين الذين لم يستطع أحد منهم إقناع المشاهد بالشخصية التي يجسدها، حيث شكلت دبلجة الأصوات أحدى أهم العوامل -إلى جانب رداءة التمثيل- التي أدت لإقصاء الممثل تماما عن الشخصية التي يجسدها.
الكاتب وحده هو من كان يتحدث عبر شخصياته المختلفة، دون أن يكون مقنعا في تصوير تطورها الدرامي، كما انه أقحم شخصياته في لغة لا تناسب خلفياتها الاجتماعية، فتارة يكاد "بلال الحبشي" ان يتحدث عن الوجودية، وتارة أخرى يخوض حوارا فلسفيا مع شخصيات لا تعبر عن واقعها التاريخي.
كما ان المشاهد التي تضمنها المسلسل في عرضه للسيرة النبوية لم تتمكن من خلق ذلك التفاعل الذي يحدثه أي عمل تاريخي لدى المشاهد، حيث لم تتجاوز مشاهد تعذيب بلال الحبشي أو آل ياسر او غيرهم من الصحابة كونها ظواهر صوتية مصمتة، والمشاهد التي عبرت عن هجرة الصحابة لم تكن سوى جملا إخبارية، ناهيك عن الفشل الذريع في الارتقاء إلى المستوى المطلوب خلال عرض مشهد وصول النبي (ص) إلى يثرب.
في هجرة المسلمين الاولى إلى الحبشة دار حوار عميق بين النجاشي وعمرو بن العاص، وشكل ذلك الحوار احد اهم اللحظات التاريخية التي عكست الملامح العامة للفكر الاسلامي، غير أن إقحامها في مسلسل عمر بتلك الطريقة التي شاهدناها، أقل ما يمكن أن يقال عنه هو انه توظيف غير ناجح.
وامام مسلسل "عمر" الذي كان محاولة متواضعة لعرض السيرة النبوية دون النجاح في تحقيق الهدف من تجسيد شخصية عمر بن الخطاب، لا نملك إلا أن نقول رحمة الله على العقاد وعلى الفنان المبدع عبدالله غيث الذي لا تفارق صورته ذهن المشاهد كلما دار حديث حول السيرة النبوية.
لغة الجسد ودفقات الإحساس في ملامح عبدالله غيث وصوته حققت الهدف من تجسيد شخصية حمزة في فيلم الرسالة، حيث عبر عن شخصية حيّة بكامل تفاعلاتها وحالاتها الذهنية والشعورية وتطورها الدرامي الذي استطاع عبره العقاد أن يسلط الضوء على تطورات الاحداث في تلك الحقبة التاريخية ويعرضها بأسلوب جعل المشاهد يتفاعل معها لدرجة ان يشعر بأنه جزء لا يتجزأ تلك الاحداث.
أما في مسلسل "عمر" فقد جسد المخرج كافة الصحابة عبر ممثلين لم يتمكنوا من الارتقاء إلى تصوير الملامح الرئيسية العامة لتلك الشخصيات، بل ان المشاهد لم يستطع ان يدرك التمايز الذاتي بين مختلف الشخصيات التي كانت تتحدث بلغة واحدة هي لغة الكاتب.
شخصيات "الرسالة" تم انتقاؤها بعناية فائقة، وكان اداء الممثلين لها غاية في الإقناع، حيث عبرت الفنانة منى واصف ليس فقط عن ملامح شخصية هند بنت عتبة، بل ولجت إلى أعماق شخصيتها لتعبر عن تقلباتها النفسية واختلاجات مشاعرها لدرجة أقنعت المشاهد بانه يرى هند بكامل ما كانت تجسده من حقد وعناد قرشي.
كما عبر المخرج الامريكي ميل غيبسون في "آلام المسيح" عن أدق تفاصيل تلك المرحلة التي كان يسردها الفيلم، وتقمص تلك الشخصية التاريخية بكامل أبعادها، وكذلك استطاع يوسف شاهين أن يبرر تجسيد شخصية النبي يوسف في فيلم المهاجر من خلال الإبداع المتفاني في عرضها.
وبعد الفشل الذريع الذي مني به مسلسل "عمر"، سقطت كافة المبررات لفكرة تجسيد شخصية هذا الصحابي، ما يجعل الاستمرار في عرض المسلسل ضربا من العبث، بل لا مناص من المطالبة بإيقاف عرضه، لا سيما وانه أثار موجة استياء واسعة لدى العديد من رجال الدين الذين عبروا في فتاواهم عن رفضهم للفكرة التي لم ينجح العمل بدوره في تبريرها.