الجزيرة وانهيار المصداقية
د. رحيّل الغرايبة
جو 24 : لمع نجم قناة الجزيرة في فضاء العرب في وقت مبكر عندما استطاعت أن تحدث نقلة نوعية هائلة على الصعيد الإعلامي ونقل الخبر، وضربت حجراً في البركة الإعلامية الراكدة التي كانت حكراً على الإعلام الرسمي الذي يحتكر الخبر والتحليل، ويصوغ الحقائق كما يشاء، وامتازت بجرأة كبيرة في المساس بالمحرّمات السياسية، وتجاوز الخطوط الحمراء التي كانت ترسمها الأجهزة الأمنية بصرامة. استطاعت الجزيرة في بداية انطلاقتها أن تبني مصداقية معقولة عند المواطن العربي من خلال المنهج الإعلامي الحيادي الذي ينقل الرأي والرأي المخالف، الذي جاء مخالفاً لما اعتاد عليه المستمعون وألفوه من السماع لوجهة نظر أحاديّة، وبالغت الجزيرة في حرصها على حضور الرأي الآخر في أغلب القضايا المطروحة إلى درجة التجرؤ على نقل رأي الناطق باسم الحكومة «الاسرائيلية» في مسائل الصراع «الاسرائيلي»-الفلسطيني، أو الاتصال بشكل دائم مع محلل «اسرائيلي» يعبر عن وجهة النظر «الاسرائيلية»، وكذلك بالنسبة لقضايا الخلاف السياسي بين الأنظمة الحاكمة والمعارضة في الأقطار العربية المختلفة فكانت القناة تحرص على إظهار الرأيين من خلال الاتصال المباشر مع الأطراف المختلفة ليعبر كل طرف عن نفسه بنفسه. هذا الأسلوب في نقل الخبر، وتوضيح الصورة للمشاهد أسلوب صحيح ومقبول، رغم الاعتراض الشعبي على موضوع الاعتراف بالكيان الصهيوني، أو ما يطلق عليه التطبيع مع العدو المحتل، لكن القناة بقيت متمسكة بالحرص على نقل وجهة النظر الأخرى حتى لو كانت للعدو، وهذا ما كان يحدث في نقل وقائع الحرب الأمريكية على العراق، أو في نقل أخبار القاعدة وأسامة بن لادن، وبث الأشرطة التي تنقل تصريحات بعض قياداتهم المطلوبة للملاحقة والاغتيال. حاولت الجزيرة أن تلتزم بهذا المنهج في نقل وقائع الانتفاضات الشعبية في بعض الأقطار العربية، ولكن غلب عليها منهج المبالغة التهويل والانحياز لبعض وجهات النظر الذي أثار عليها عاصفة شديدة من الانتقادات في الفترة الأخيرة، وبدأت الجزيرة تفقد مصداقيتها بشكل متدرج، وفقدت قسطاً وافراً من شعبيتها التي كانت تتمتع بها قبل حدوث التطور الهائل على الساحة الإعلامية، وعلى صعيد البث الواسع للأخبار عبر مواقع التواصل الاجتماعي. لكن القناة مؤخراً وقعت في أخطاء شنيعة وسقطت سقوطاً مريعاً في نقل أخبار الخلاف داخل الحركة الإسلامية، وناقضت منهجها بطريقة بشعة، عندما اقتصرت على نقل وجهة نظر أحادية، وانحازت لرواية طرف واحد محدد، فمنذ ما يقارب الثلاث سنوات على انطلاقة مبادرة «زمزم» وهي تتحاشى التواصل مع قادتها أو نقل وجهة نظرهم، ولم تضعهم في منزلة الكيان الصهيوني والعدو المحتل في التمتع بحق إبداء وجهة النظر الأخرى!! أما السقطة الكبرى كانت في تغطية خطوة التصويب القانوني التي تمت مؤخراً، وكانت الفاجعة في نقل تقرير مسف يغطي هذا الحدث بطريقة غير مسؤولة، عندما صورت الخطوة على أنها من الحكومة واستخدمت إخواناً مفصولين، لتسهم في مزيد من التعمية والتضليل على مجريات الحدث، ولم يكتف التقرير بهذه المغالطات، بل عمد إلى وصف الخطوة بأنها انشقاق على أسس إقليمية، مما جعل الجزيرة تروج للفتنة وتصب الزيت على النار المشتعلة بطريقة تسيء للشعب الأردني والدولة الأردنية وليس إلى فريق من الجماعة بعينه. لا أنتقد الموقف المعارض لهذه الخطوة ولا انتقد الموقف المنحاز لطرف دون طرف، ولكن العتب موجّه لإدارة الجزيرة كيف سمحت ببث هذا المقطع الذي ينافي الحقيقة، فضلاً عن الأثر البالغ في إثارة غرائز الدهماء الذين لا يعرفون تفاصيل الخلاف في وقت يتم اللعب على إثارة النعرات في المجتمع على هذا الأساس المفزع، بطريقة غير مسؤولة وغير موضوعية. الذين ذهبوا إلى هذه الخطوة لم يصدر عنهم كلمة تمس هذا الموضوع من قريب أو بعيد، وموضوع التصويب القانوني لا علاقة له بالجهوية والأصول والأعراق، وتم الاعتماد فقط على قراءة الأسماء والعائلات بطريقة موغلة بالسطحية والاسفاف، الذي يجب أن تترفع عنه الجزيرة، وتنحاز للحد الأدنى من المسؤولية والمهنية الإعلامية.الدستور