إعصار الإصلاح بين الدول الملكية والجمهورية.. وحالة الأردن
خلال نصف القرن الأخير، أعيد الوطن العربي في حكمه إلى العصور الوسطى. فقد تصاعد سلطان الدولة الإقليمية وحكامها بشكل تدريجي، وتراجعت الحقوق والحريات التي نصت عليها الدساتير المأخوذة عن أعرق الديمقراطيات الغربية. وفي أغلب الحالات تركزت السلطة في يد حاكم فرد أوحد، أحاط نفسه ببطانات وأجهزة لتنفيذ إرادته، حتى أصبح حاكماً مطلقاً، فاق ما لديه من صلاحيات واقعية يمارسها، ما كان يستحوذ عليه أباطرة العصور الوسطى الأوروبية من سلطات، بموجب ما يدعونه من حق إلهي لهم مصدره السماء. فتراجع دور الدولة في رعاية أبنائها، وانتشر الفساد والإفساد، وساد النفاق والانتهازية، وأصبحت تعاليم ميكافيللي مصدر القيم للكثيرين. ورغم أن غالبية الدساتير العربية تنص على أن الشعب مصدر السلطة، إلا أن مثل هذه النصوص، ومعها كل ما في الدساتير، توضع لتبقى مجرد ديكور للزينة، لينشغل بشرحها الأكاديميون والسفسطائيون!!
وهكذا، فبدلاً من مواصلة أهل الفكر والرأي سعيهم وطروحاتهم لمشروع الأمة، أصبح عليهم مواجهة ما يجري في دولهم الإقليمية، من خلال كتابات وأفكار يقدمونها للإصلاح، والتنبيه إلى خطورة ما يجري من تغييب لإرادة الشعب، واصطناع مجالس للتشريع بانتخابات مزورة، وتسخير الدولة وأجهزتها لأمن الحاكم على حساب أمن المواطن، وجعل الأجهزة الاستخبارية بوسائلها اللاإنسانية، تتحكم بمفاصل الدولة وشؤون الناس، وإعطاء شهادات حسن سلوك بالموالاة، كمؤهل لشغل المناصب، فحلّت الكفاءات الضعيفة مكان أصحاب المؤهلات والقدرات، ليصبح الولاء للحاكم بديلاً عن التأهيل. وقاد ذلك إلى انحدار الأداء الحكومي، وتزاوج رأس المال مع السلطة، وغزت الأزمات اقتصاد الدولة، وانتشر النهب والفساد للمال العام، وتلاشت الطبقة الوسطى، التي تعتبر العمود الفقري في بنيان الدولة.
وإذا كان مؤدى ما سبق، افتقاد الثقة بالحكم، وتراكم سخط الناس، وبالتالي توفير الدوافع لتحريكهم ضد السلطة، فإن المسؤولين، بدلاً من الاهتداء بما يكتبه وينادي به أهل الرأي والفكر، واستقراء دواخل الناس، الذين أوشكوا على الانفجار، عالجوا الأمر بمزيد من التشدد والتسلط على الرقاب، وتقييد الحقوق والحريات، وتكميم الأفواه، وتدجين الصحافة.
واعتبر المسؤولون أن من ينادون بالإصلاح هم قلّة من الناس، وناقصو الولاء للحكم أو مشاغبون، وأن الأغلبية الصامتة تدين بالولاء للسلطة الحاكمة، التي تنطق باسم هذه الأغلبية. لكن صبر الشعوب بلغ مداه، فانفجرت الأغلبية الصامتة، ليبدأ الربيع العربي من تونس، وبعدها مصر، ثم اليمن ثم ليبيا، وتهاوت أمام الثوار في تلك الدول سلطات الحكم ورموزها، ولم تنفعها ما كانت قد أعدّته من أجهزة ظاهرة وخفية، بأعداد بلغت الملايين، اعتقاداً بأنها ستحميها من الشعب، عندما يعلن غضبته. فخلال أسبوع هرب بن علي رئيس تونس، وخلال أسبوعين استسلم مبارك، رئيس مصر، للسقوط، وخلال شهرين عُثر على القذافي مختبئاً في إحدى مواسير المجاري فتم سحله، أما علي عبدالله صالح، فقد مكنته قبيلته المليونية من المقاومة عاماً، وبعدها تمت إزاحته، مشوه الوجه واليدين والجسد حرقاً، ولم يعد بأحسن تقويم كما أراد له الله.
ونلاحظ هنا، أن الدول التي تخلصت من سلطاتها، هي دول ذات نظم جمهورية، وفيها دساتير تنص على أن الشعب مصدر السلطة أو صاحب السلطة، لكن وسيلة الرئاسات فيها للبقاء في الحكم تلك العشرات من السنين، تحت ستار الانتخاب أو التمديد أو التجديد لفترات متتالية، لم يكن إرادة الناس، بل تزوير لهذه الإرادة، وإسكات أصحابها عن طريق البطش بالمعارضين، وزرع الخوف في دواخل من تسوّل لهم أنفسهم بالجأر في الشكوى أو الخروج على طاعة الفرعون، أو الانتقاص من سلطانه. وغاب عن أنظمة الحكم تلك، أن تاريخ النظم السياسية يؤكد أن هناك طاقة قصوى عند الإنسان، لاحتمال الظلم والقهر، وبعدها تستوي عنده الحياة أو الموت، فيدفعه الإحساس بالظلم والغضب المكبوت إلى الانفجار، لتستقر القاعدة الذهبية المستخلصة من الدم، في حكم تطور تلك النظم السياسية وهي، أن النظم التي تعاند شعوبها، تنكسر حتماً ولو بعد حين، وأن من الغباء أن يعتقد حاكم أنه أقوى من شعبه.
أما في الدول الملكية، التي تحكمها دساتير، فليس هناك مدة زمنية تحكم بقاء رأس الدولة في موقعه، وعند وفاته يتسلم ولي عهده موقعه منه بالوراثة، وهكذا. ولذلك، فإن المفروض أن هواجس الخوف من عدم الاستمرار في الموقع، الذي يحكم التكوين النفسي لرئيس الجمهورية في الوطن العربي، ويدفعه لاتباع الوسائل غير الديمقراطية، من أجل البقاء على رأس السلطة، ينبغي أن لا تكون موجودة في النظم الملكية، ما دامت تطبق دساتيرها، وتلتزم بمبدأ الشعب مصدر السلطة، ومبدأ تلازم السلطة والمسؤولية، والفصل بين السلطات، والانطلاق في الحكم من أن وظيفة سلطات الدولة، التي تنص عليها الدساتير، هي رعاية الحقوق والحريات، التي تشكل الجزء الأول من أي دستور، وحمايتها وتوفير الضمانات لممارستها.
لكن رياح الربيع العربي، إذ هبّت بقوة كالعواصف على بعض تلك الملكيات، وتحركت شعوبها للمطالبة بحقوق وحريات وإصلاحات دستورية وسياسية، فإن معنى ذلك، أن هذه الدول قد انحرفت عن المسارات، التي تستوجبها دساتيرها، أو أن هذه الشعوب لم تعد قانعة بما في دساتيرها، واعتبرت أن الزمن تجاوزها، ومن ثم أخذت تطالب بمزيد من الحقوق والحريات، ومحاربة الفساد، ومعالجة الاختلالات في الاقتصاد وظروف معيشة الناس، وذلك من خلال ما تنادي به من إصلاحات.
وتمثلت تلك الملكيات، التي تحركت شعوبها بشكل ظاهر من أجل الإصلاح، في كل من البحرين والمغرب والأردن. ومن يتابع مدى استجابات تلك النظم لشعوبها، يستطيع أن يتبين ما إذا كانت قد أفادت من دروس التاريخ أم لا.
ففي البحرين، اتهمت سلطات الحكم المطالبين بالإصلاح والمعارضة، بأنهم ينطلقون من دوافع طائفية تحركها جهات أجنبية، وأخذت المواجهة طابع العنف وإسالة الدماء، ولا زال الوضع في تلك الدولة متوتراً، يثور ويهدأ، والجميع يترقب ما سوف تنتهي إليه الأمور.
أما في المغرب العربي، فقد استطاع النظام أن يقرأ بعمق، الواقع الشعبي ومطالبه، فأصدر دستوراً جديداً، فيه الكثير من الخطوات الإصلاحية المتقدمة على الدستور السابق، فأعطى للمعارضة دوراً دستورياً، لم تكن تحظى به، وعالج تركيز السلطة، كما توسع في مجال حقوق وحريات المواطنين، وأكد على دور تفصيلي للسلطة في خدمة تلك الحقوق والحريات. وتم إجراء الانتخابات البرلمانية، واستطاعت المعارضة أن تشكل الحكومة وإدارة شؤون البلاد.
لكن الحال في الأردن اختلف، عن كل من البحرين والمغرب، فهو لم يصل إلى عنف البحرين، لكنه لم يبلغ ما حصل عليه أبناء المغرب من إصلاحات. فقبل الربيع العربي، كانت المطالبة بالإصلاحات الدستورية في الأردن خطاً أحمر، وكانت الأجهزة والبطانات والطبقة السياسية المحيطة بالحكم، تتهم من ينادي بالإصلاحات الدستورية، بعدم الموالاة للنظام السياسي، أو أنه ضد النظام، أو لديه أجندة خاصة، أو مدسوس من جهات أجنبية...الخ. وفي تلك الحقبة السابقة على الربيع العربي، تصاعد دور الحكومة الخفية، ووصل هذا التصاعد حداً غير مسبوق. فهذه الحكومة، التي لا سلطة ولا صلاحية لأعضائها في الدستور، غدت واقعياً فوق الدستور، إذ أصبح المواطن، انطلاقاً مما يلمسه، يشعر بأنها هي التي تعيّن الحكومات، وتزور الانتخابات، لتأتي بنواب مفصّلين على المقاس، وهي التي تختار أعضاء مجلس الأعيان، وهي التي تتغول على القضاء والجامعات والمؤسسات والإدارات، وحتى قبول الطلبة في الجامعات. والمعيار الأساسي لمن يحظى ببركات تلك الحكومة، أو تجنب أذاها، هو درجة المطواعية لها. أما الكفاءة والقدرة على خدمة الوطن والمؤهلات العالية، فهذه من حيث الواقع الملموس، لا قيمة لها ولا وزن عندها. يدل على هذا، نوعية عدد من رؤساء الحكومات والوزراء وأصحاب المراكز المتقدمة في الدولة، الذين نُصِّبوا على حكم الشعب، رغم افتقادهم لأية قدرة أو كفاءة للقيادة، أو المعرفة باستخلاص صلاحياتهم من الدستور، أو حمايتها إن استخلصوها، فانحدر المنصب الوزاري، ليصبح من يشغله موظفاً ينتظر التوجيه تارة، أو يمارس الانحراف عن الدستور بجرأة تارةً أخرى، اعتقاداً منه بأنه في ذلك يستبق التوجيه ويثبت القدرة على الانصياع. وكان من نتيجة ذلك، تجريف الكفاءات في الوطن، إما عن طريق هجرتها، وإما عن طريق هجرها، حتى تبلغ مرحلة تتقاعد فيها بحكم العمر. بل أكثر من ذلك، فمن يدرس الواقع، يجد أن تلك الحكومة الخفية في طريقة استبعادها للناس، طبقت منهجية حرق البدائل، عندما صنفت كل من لا يدخل في طاعتها، بأنه غير صالح لخدمة النظام، وبالتالي ليصبح مستبعداً، الأمر الذي أدى إلى أن يستمر أشخاص بعينهم في التناوب على كراسي السلطات والمواقع القيادية في الدولة، عشرات السنين، بحجة عدم توافر البدائل الموثوق بها.
أما الأحزاب السياسية، فقد كان تشكيلها جريمة يعاقب عليها القانون، ودام تجريم الحزبية ثلاثين سنة. ورغم صدور قانون يبيح إنشاء الأحزاب العام 1992، إلا أن القيود والعقوبات التي انطوت عليها قوانين الأحزاب، بالإضافة إلى الخوف القادم من الماضي، ثم اختراق الحكومة الخفية للأحزاب التي أخذت بالتشكل، جعل تلك الأحزاب تراوح مكانها وغير قابلة للنمو، ما عدا حزب جبهة العمل الإسلامي، حيث انتظمت فيه جماعة الإخوان المسلمين، التي مضى على عملها في الساحة الأردنية أكثر من ستين سنة.
وحتى الدستور الأردني، فقد كان قد أُجري عليه (28) تعديلاً، فأفقدته تلك التعديلات توازنه وانتماءه إلى عائلة النظام البرلماني، عندما مكنت التعديلات من تركيز السلطة. بل أكثر من ذلك، فإن الباحث يتبين أن النصوص الدستورية، التي لم يحدث عليها أي تعديل، قد تمكنت السلطة من استدراج تفسيرات ومدلولات لها، مفصلة على المقاس المرغوب فيه. يُضاف إلى هذا، أن درجة الشذوذ في التعامل مع الدستور، وصلت حداً هُجرت معه بعض النصوص الدستورية الآمرة، فأصبحت مهملة لا مكان لها في التطبيق، لأنها تعيق التفرد بالقرار.
وفي ظل أجواء وممارسات سياسية كهذه، كان من الطبيعي أن يحل حكم الأشخاص مكان حكم القانون، وأن ينتشر الفساد، وينفتح باب النهب للمال العام، ويتراجع الاقتصاد، ويختفي مبدأ الشعب مصدر السلطة، ومبدأ الفصل بين السلطات، وتصبح الحقوق والحريات أسيرة لدى من لا يؤمن بها.
وما ان دخل الربيع العربي إلى الأردن منذ أوائل عام 2011، حتى هب الشعب الأردني في مسيرات واعتصامات سلمية، يطالب فيها بإصلاحات دستورية وسياسية، وملاحقة الفساد والفاسدين، ومعالجة الأحوال المعيشية المتردية لدى الناس، وتراجع الاقتصاد، كما طالبوا بإسقاط الحكومة، وحل مجلس النواب السادس عشر الذي دخل في وجدان الرأي العام أنه جاء بانتخابات مزورة عام 2010، وفقاً لما اعترف بذلك من كانوا على رأس الجهات التي قامت بالتزوير، في أعقاب مغادرتهم لمواقعهم.
ومع هبة الشعب الأردني ومسيراته، أعلن الملك على الناس، أن الإصلاح وإجراء تعديلات دستورية، يعيش في ذهنه منذ سنوات، وجاءت الآن الفرصة. ولذلك سارع بإقالة أول حكومة في شباط (فبراير) عام 2011، رغم أن مجلس النواب كان أعطاها الثقة بأغلبية (111)، من أصل (120) نائبا! وجاء الملك بحكومة معروف البخيت، لتتم إقالتها في شهر تشرين الثاني (أكتوبر) عام 2011 تحت ضغط المسيرات الشعبية، وأعقبتها حكومة عون الخصاونة، الذي استقال لخلافات مع حلقات الحكم العليا في نيسان (إبريل) عام 2012، وأخيراً جاءت حكومة الدكتور فايز الطراونة، لتحل مكان حكومة الخصاونة.
وهكذا، تناوب على الوطن في زمن الربيع الأردني أربع حكومات حتى الآن، أمضت كل واحدة من الثلاث الأولى بضعة أشهر في الحكم لتقوم بالإصلاح، ولا نعتقد أن حكومة الطراونة التي أمضت في الحكم حتى الآن أربعة أشهر، ستستمر في السلطة لأكثر من شهر أو شهرين، بعد أن قبلت بإغماض عيونها عن مسيرات الناس، وتسكير آذانها عن سماع مناداتهم بالإصلاح، والدخول في تحدٍّ سافر مع شعبها، بل ومع التاريخ.
ومنذ أن أعلن الملك عن إطلاق عملية الإصلاح الدستوري، سارع من كانوا يعتبرون تعديل الدستور من الخطوط الحمراء، لتغيير جلودهم، ليستمروا عرابي المرحلة، فارتفع صوتهم بالتهليل لخطوة الملك. فهم يعرفون من أين تؤكل الكتف، ولهم مصالح وامتيازات كبيرة من الوضع القائم، وأي تغيير جذري في الاتجاه لن يحرمهم فقط من استمرار مكاسبهم، وإنما سيؤدي إلى ملاحقتهم، لأنهم هم الذين أوصلوا البلاد والعباد إلى الوضع الحالي. ومع الأسف فقد نجح عرابو الاستبداد وقمع الحريات، في أن يصبحوا العرابين للإصلاحات الدستورية والسياسية، من خلال حكومات ومستشارين وشخصيات، ومجلسي نواب وأعيان، لا يعصون للعرابين أمراً. وصدرت التعديلات الدستورية لـ (78) فقرة في الدستور، تم سلقها على عجل من قبل الحكومة وسلطة التشريع خلال (30) يوماً حسب التوجيه الذي صدر، فكان معظمها فيه من التشويه والتناقض ما يندى له الجبين، فضلاً عن الإبقاء على النصوص الدستورية محل الشكوى، على حالها دون تعديل، رغم ما قادت إليه من تركيز للسلطة.
وفي حقيقة الأمر، فإن الأردنيين لم يشتكوا يوماً من نقص في النصوص الدستورية المتعلقة بالحقوق والحريات، لكن الشكوى كانت من النصوص التي تُمكن وبشكل مباشر من إفراغ تلك الحقوق والحريات من مضامينها، ومن نصوص أخرى تفتح أبواباً لآخرين، تعبر من خلالهم الحكومة الخفية، لتجعل السلطات الظاهرة طوع بنانها، كما كان الحال في الماضي، ومع ذلك، فإن مثل هذه النصوص ظلت كما هي، وأُضيف إليها ما يجعل الحال أكثر سوءاً.
وأمام ما سبق، استمرت المسيرات والاعتصامات المطالبة بإصلاح حقيقي. وبمعزل عن حزب الإخوان المسلمين، فإن حصاد السنين من ممارسات الحكومة الخفية في المجتمع السياسي، جعل الأحزاب والتجمعات السياسية مجرد كينونات صغيرة غير فاعلة، وغير قابلة للنمو، بسبب اختراقها والسيطرة على توجيه الكثير منها. ولذلك، تشكلت خلال فترة الربيع الأردني، تجمعات شبابية غير مؤطرة حزبياً، تحت عناوين وأسماء مختلفة، وأصبح الكثير منها يحمل أسماء المدن والقرى التي تكونت فيها، ولا زالت هذه التجمعات تعمل فيما بينها من أجل اندماجها أو إقامة ائتلافات بينها. أما الشخصيات السياسية التي تؤمن بالإصلاح، فإن أصوات الكثير منها لا يتعدى الصالونات السياسية التي تجلس فيها. وبعض هذه الشخصيات يتحدث بلغتين، لغة ثورية يستخدمها في الصالونات، ولغة أخرى مختلفة يدّخرها للمديح والتعظيم، انطلاقاً من خبرة لديه مكتسبة بجدوى النفاق في نوع يعرفه من المناسبات. وقد تم إنشاء الجبهة الوطنية للإصلاح، من بعض الشخصيات المعروفة بوطنيتها وعدد من القيادات النقابية والأحزاب السياسية، وساهمت في تحريك الشارع، ولا يزال الأمل معقوداً عليها في حشد الضغط الشعبي المؤثر في تحقيق الإصلاح.
وخلال الأشهر الأخيرة، برزت ظاهرة جديدة أخذت تتطور في تسارع ملفت، في القرى والمدن خارج العاصمة. فقد أصبحت العشائر تنتظم في المسيرات المطالبة بالإصلاح، وترفد المجتمعات الشبابية غير المؤطّرة بأبنائها. وفي بعض المدن مثل إربد، أصبحت بعض العشائر ترسل ممثلين لها للالتقاء بأبناء العشائر الأخرى للمشاركة في المسيرات. وقد يؤدي تطور هذا النهج المتنامي بشكلٍ ملحوظ، إلى عواقب خطيرة، وعندها سوف يقفز المنافقون والانتهازيون والمستفيدون، من السفينة عند جنوحها، كالفئران عندما تستشعر الخطر!!
ومما يجدر ذكره في هذا الصدد، أن من يتابع سلوك السلطة يلاحظ، أن انحناءتها، التي ظهرت بالاستجابة لمطالب الناس، خلال الحقبة الأولى من الربيع الأردني، قد وقفت عند حدٍ معين، تمثل في ما يُطلق عليه اصلاحات دستورية رغم عيوبها، لكن تلك الانحناءة ظلت تراوح مكانها. يدل على ذلك، أن تعديل المواد الدستورية التي تطالب بها المسيرات ليست في وارد السلطة، كما أن القوانين الأخرى للحريات، مثل قانون الأحزاب وقانون الانتخاب، أصبحت تُفرض بشكل فوقي.
ويبدو أن ما قدمته السلطة هو أقصى ما عندها، ومع ذلك، فإنها لا تستشعر الخطر من انفجار شعبي. وما يؤكد هذا كأوضح مثال، فرضها لقانون الصوت الواحد للانتخاب، رغم تمزيقه لحمة المجتمع وفكفكة تماسك الدولة، وخلْق كينونات عشائرية أو مناطقية أو قروية، ذات سيادة خاصة مقصورة على سكانها، وكل هذا دون التفات لأصوات المسيرات المطالبة بالعدول عن هذا القانون سيئ السمعة. ومن يدرس المعطيات الواقعية للمسارات التي مرَّ بها النظام الانتخابي في قانون الانتخاب، وموقف دوائر السلطة منه، يُلاحظ أنه قد شكل هاجساً لدى حلقات الحكم العليا، وارتباكاً وتخبطاً في كيفية التعامل معه. ذلك أن اللجنة التي شكلتها حكومة معروف البخيت من القوى السياسية المختلفة برئاسة، دولة طاهر المصري رئيس مجلس الأعيان، انتهت بعد ثلاثة أشهر من النقاش إلى توصية بضرورة إلغاء قانون الصوت الواحد، واقترحت البديل عنه. وكحل وسط، اعتمدت حكومة البخيت ثلاثة أصوات للناخب في دائرته الانتخابية، وعندما جاءت حكومة الخصاونة، قدمت لمجلس الأمة، بعد صراع طويل مع السلطة الخفية، مشروع قانون يعطي الناخب صوتين في دائرته، وخصصت للأحزاب (17) مقعداً على مستوى الوطن للتنافس عليها بموجب قوائم حزبية. لكن حكومة الطراونة، ضغطت على النواب للعودة لقانون الصوت الواحد، فقرر المجلس ذلك، ووافق عليه مجلس الأعيان كما هو، مع بقاء الـ (17) مقعداً على مستوى الوطن ليتنافس عليها الجميع وليس الأحزاب فقط. وصدرت بالقانون إرادة ملكية. وفي ذات اللحظة التي وقّع فيها الملك على القانون، طلب من الحكومة رفع عدد مقاعد الوطن إلى (27) مقعداً، وتم تعديل القانون على أساس ذلك!! لكن المظاهرات والمسيرات ظلت مستمرة تطالب بإلغاء قانون الصوت الواحد وإجراء إصلاح للإصلاحات الدستورية!!
وبالطبع، فإنه سواء بالنسبة للتعديلات الدستورية التي تمت، أو قانون الانتخاب الذي صدر، فإنه أصبح جزءا من المفهوم عند الناس، وفقاً للواقع المُعاش، أن الأمر لم يكن في يد حكومة أو برلمان، فهذه الجهات هي مجرد سلطات ظاهرة، وهناك من يقرر في الخفاء، وعلى هذه الجهات الطاعة والتوقيع، بعد أن يصدر الأمر لها من خلال الهاتف، حتى اشتهر وصف يُطلق على بعض أعضاء مجلس النواب بأنهم نواب "الألو". ومن ناحية أخرى ففي ظروف الربيع العربي، الذي وصل الحال في عدد من دوله إلى تغيير سلطات الحكم كاملة، وفرض دساتير جديدة وواقع سياسي جديد، يستجيب للمطالب الشعبية، فإنه لمن قصر النظر التعامل مع واقع الربيع الأردني ومعطياته وتطلعات مسيراته، بشكل فوقي لا تحتمله المرحلة.
بالتأكيد، ليس هناك من رئيس دولة، يستطيع أن يحيط بعلوم الدساتير والقوانين والاجتماع والاقتصاد، أو يأتيه الوحي ليطلعه على توجهات الرأي العام ومتطلباته، ليقوم بالتوجيه أو اتخاذ القرار انطلاقاً من ذلك. لكن رئيس الدولة من ناحية أخرى، لا بد وأن يكون محاطاً بالخبراء والمستشارين وأصحاب الاختصاص في كل حقل، وتنفق عليهم الدولة من خزينتها، ووظيفتهم الدراسة والبحث والتفكير، فيعرضوا على الرئيس، الحقائق الواقعية كما هي، ويقدموا له الحلول والبدائل، لتكون أمامه عند أخذ القرار أو التوجيه.
أما واقع الأمر في الأردن فهو مختلف جداً. فمن ناحية، لا أعتقد أن هناك أعداء للنظام الملكي في الأردن، ومطالبات الناس ومسيراتهم هي في الأصل للمناداة بإصلاح النظام، ولا أظن أن هناك حزباً أو تنظيماً أو تجمعاً أو حتى أفراداً، خطر ببالهم الإساءة للنظام. ولكن من ناحية أخرى، فإنه أمام هذا التوتر والاحتقان الذي يتصاعد في الساحة الأردنية، لا يجد المتابع أمامه سوى القول أن سلوكيات وتصرفات أعضاء نادي السلطة الخفية، هي التي قادت إلى الإساءة، حيث لا زالت أسيرة لعقليات الماضي، ومنطقه في الاستئثار بالسلطة والقرار، والامتيازات والمنافع، ولا تريد إصلاحاً تفقد من خلاله مكاسبها.
ويدل الواقع على أن هذه الطبقة، هي التي تضع أمام القيادة المعطيات الواقعية والاستشارات، التي تبني عليها قرارها وتوجيهاتها المتعلقة بالإصلاح. وفي ظني أن هيمنة تلك الطبقة على ما تم، واعتباره إصلاحات، يعني إما أنها تجاهلت متطلبات المرحلة، وإما أنها لم تستوعب مقتضياتها، ما استتبع عدم مبالاتها بالواقع ومستجداته، فقدمت ما تعتقد أنه إصلاح يمكن تسويقه على الناس، رغم أنه في حقيقته لا يتجاوز الشكليات والقشور، دون أن يعني عندها شيئاً، أثر ذلك على هؤلاء الناس الذين طال انتظارهم للعبور إلى مرحلة جديدة من حياة الدولة، يتخلصون فيها من الفساد ومن تراكمات الشعور بالتهميش والظلم والكبت المريع، وبالتالي أثر ذلك على النظام.
ولعل الغرور النابع من استشعار القوة عند هذه الطبقة، بموجب السلطة المطلقة التي تستحوذ عليها، والقصور بالفكر، قد حجبا لديها الرؤيا عن إدراك روح العصر، التي تسكن في وجدان شعب يضغط للتغيير، فكان سقف الإصلاح عندها في الحدود، التي لا تؤثر على مصالحها أو استمرارها في مواقعها. وبهذا، فقد انفصلت تلك الطبقة بنهج عواجيزها السنية أو العقلية أو الفكرية عن مجتمعها، ولم تعد تقبل بترك مقاعدها، إلا لعناصر مستجدة من ذات النوع فكراً وعقلاً ومصلحة، دون أن يخطر ببال هذه الطبقة المنتفعة حتى أن تكترث، بأن انفصالها عن مجتمعها سوف يخلق ثغرة تتسع مع الأيام بين النظام وشعبه، لتتصاعد مع هذا الاتساع، هتافات تخرق الخطوط الحمراء كل يوم، وتمس هيبة الحكم، على نحوٍ غير مسبوق. وبالتأكيد، فإن الطبقة المذكورة، تكون قد استخدمت خبرتها المتراكمة للمحافظة على استمرارها واستمرار نهجها، من خلال خلق أشباح من الأعداء، الذين يتربصون بالنظام الملكي، وبصلاحيات الملك، وذرف دموع التماسيح خوفاً عليها، مع أمثلة تحرفها عن حقيقتها، أو اختلاق ما يوحي بأنه لولاها ولولا أساليبها في التعامل مع الواقع، لما بقيت هناك دولة ولا استمر نظام.
ولا تزال هذه الطبقة سادرة في غيّها، انطلاقاً مما تعتقده سلطة بيديها، وأجهزة وقوة تأتمر بأمرها، وتستطيع تحريكها لقمع الناس عند الاقتضاء.
لا يا أعضاء الطبقة العازلة المتسلطة والمنتفعة، لا تغترّوا بما تعتقدون أن السلطة والقوة في يديكم. إن النظام الملكي الأردني ليس نظاماً مغامراً، حتى يواجه الناس بالعنف.
إن السياسة يا أعضاء النادي، هي علم وفن، وتنتمي إلى العلوم الاجتماعية، ومعناها أن يكون القرار المتعلق بتطلعات الناس للإصلاح، محصلة حوار موضوعه أفكار ومبادئ وبرامج وطروحات، وهذه لا قيمة لها إذا لم تكن متصلة بالواقع الشعبي واحتياجاته، وبعد ذلك يحدث الوصول إلى القرار. فإن كان القرار فوقياً ابتداء وانتهاءً، خرجنا كلياً من عالم السياسة ودخلنا عالم التسلط والاستبداد من أوسع الأبواب، وراكمنا القهر والكبت واستشعار الظلم عند الناس.
وإذا نظرنا إلى الدساتير والإصلاحات الدستورية والقانونية، فإننا نجدها في الأصل ليست مجرد نصوص، وإنما هي ابتداء وانتهاء مضامين تعكس إرادة شعب ورؤاه، وبعد ذلك يأتي دور الخبراء الدستوريين والقانونيين لصياغة تلك المضامين على شكل نصوص. فأين ما أسميتموه إصلاحات دستورية وقانونية من هذا الأصل، الذي غُيِّب أو غاب!! وأسارع وأضيف، إياكم أن تصدقوا ما قاله السفير الأميركي وإظهار إعجابه بنصوص دستورية وقانونية وضعتموها، فما أدلى به سعادته لا يصدر إلا عن جاهل في موضوع الدساتير والقوانين، أو عارف بحقيقتها وأراد مساعدتكم بتسويق ما عملتم. لكنه لا يستطيع أن يسوّق مثل تلك النصوص لتطبق في أميركا، إذ لو فعل، فسوف يقتادونه إلى أقرب مصحة عقلية أو نفسية لعلاجه.
إن الدستور يا أعضاء النادي، وفقاً للبديهيات التي أصبح يفهمها حتى رجل الشارع، هو عقد اجتماعي بين طرفين، شعب يحرص في العقد على حقوقه وحرياته، وسلطة تتعهد بحماية تلك الحقوق والحريات ورعايتها وتنميتها، بحيث يكون من حق الشعب أن يعزلها عند انحرافها. فهل ما أطلقتم عليه تعديلات دستورية له أية صلة بعقد له طرفان.
أنتم تعلمون يا أعضاء النادي أن هكذا تعديلات وضعها وأصدرها أمام الناس طرف واحد هو السلطة الظاهرة التي تأخذون لها قراراتها، وبالتالي، فقد غُيب الشعب بكل أطيافه السياسية عن دوره في تلك التعديلات، فهل يكون العقد من طرف واحد!! لا يا سادة، إن ما قررتموه بشكلٍ فوقي لفرضه، ينتمي إلى المسرحيات السياسية رديئة الإخراج، لكنه ابتداءً من حيث الشكل لا يقبله منطق التعاقد أو العقود، في أي شريعة أرضية أو سماوية، وما أطلقتم عليه وصف الإصلاحات الدستورية هو من حيث الشكل أيضاً تلفيقات دستورية، لم تعرف النظم السياسية سرعة وأسلوباً في وضع مثلها.
أما من حيث مضمون نصوص التعديلات الدستورية المطلوبة، وما اعتبرتموه بالتعديلات التي أجريتموها إصلاحات، فقصتي معها طويلة. ففي مطلع عام 2010، أصدرت كتاباً عنوانه "الحقوق والحريات بين أهواء السياسة وموجبات الدستور- دراسة في الواقع والينبغيّات"، أنبّه فيه وأحذر مما يجري من تجاوزات، وأطالب بالإصلاح الدستوري والسياسي. وفي زمن الربيع العربي والأردني، وضعت العديد من الدراسات، بالإضافة إلى بعض المقالات، مقترحاً وناصحاً تارة، وكاشفاً البرامكة وأهل النفاق وسلطة الخفاء تارةً أخرى. وقد آن الأوان ليصبح لمضمون الإصلاح كتاباً منسّق الفصول، ليروي تسلسل قصة الإصلاح ودور السلطة الخفية في استنفار مجنّديها لإجهاضه.
وأعتقد أن الوسيلة الوحيدة لتجنب المزيد من الخسائر في هذا الوطن، هو التخلص تباعاً من أعضاء نادي السلطة الخفية، وإحلال منتمين للشعب مكانهم من أصحاب الكفاءات والأيدي النظيفة.
أما الكتاب القصة، فسوف يأخذ طريقه للنشر خلال الأسابيع القليلة القادمة، بعون الله جلّت قدرته.
* استاذ قانون دستوري ووزير سابق
(الغد)