الفقه السلطاني يحوّل العقد الاجتماعي إلى عقد إذعان لصاحب السلطة
أ. د. محمد الحموري
جو 24 :
هذا مقال تأصيلي للفكر السياسي والدستوري بشكل مبسّط، أوجزه وأقول:
وبمقتضى هذا المفهوم الذي نشره الفلاسفة لطبيعة العلاقة بين الشعب ومن يحكمه، وقر في يقين شعوب أوروبا، بعد أكثر من عشرة قرون من خضوعها لحكم السلطان المطلق، أن لها حريات وحقوق في مواجهة السلطة التي تحكمها، كالتزام يتوجب عليها الوفاء به. فإن انحرفت هذه السلطة أو تخاذلت أو تجاهلت الوفاء بالتزامها، يكون من حق الشعب وواجبه أن يستبدلها بسلطة أخرى. وقد أطلق ميثاق الاستقلال الأمريكي لعام 1776 وإعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي لعام 1789 على حق الشعب في استبدال مثل تلك السلطة، اصطلاح الحق في الثورة، وكان أول من أدخل هذا الاصطلاح توماس جيفرسون عندما صاغ الميثاق الأمريكي، وأصبح بعد ذلك الرئيس الثالث لأمريكا، وكرر الفرنسيون الاصطلاح بوثيقتهم بتأثير جيفرسون الذي كان حتى أواخر عام 1789 سفيراً لأمريكا في فرنسا، وذلك من خلال صديقه الثائر والقيادي في الثورة الفرنسية، الكولونيل لافاييت الذي كان قد شارك في الثورة الأمريكية ضد الانجليز. وقد قامت الثورات الفرنسية الثلاث (أعوام 1789، 1830، 1848) ضد السلطان المطلق، من أجل تعميد مفهوم العقد الاجتماعي في الحكم داخل الدولة. وكانت الثورة الفرنسية الثالثة في 22 شباط 1848، هي التي أشعلت ثورات الربيع الأوروبي، وانتهى الحال إلى انطلاق الدساتير من مدلول العقد الاجتماعي بالمفهوم السابق، وأصبحت تنص على أمرين لا ثالث لهما: حقوق وحريات للمواطنين، وسلطات وظيفتها حماية ورعاية وتنمية الحقوق والحريات تحت رقابة تمنعها من الانحراف، وأصبح الدستور في الدولة هو الذي يجسّد العقد الاجتماعي.
2) أما عقد الإذعان، فهو اتفاق بين طرفين يُملي أولهما إرادته على الآخر، بحيث لا يستطيع هذا الآخر مناقشة ما يريده الأول أو تغيير أو تبديل المفروض عليه، إذ عليه أن يسكت ويذعن. فعلى سبيل المثال، فإن المواطن في عقد توصيل المياه إلى منزله، لا يستطيع أن يناقش بنود العقد الذي تفرضه شركة أو سلطة المياه أو يغير فيها، وعليه أن يسكت ويذعن، لأن البديل لعدم إذعانه حرمانه من المياه، عصب الحياة، وتعريض حياته وحياة أسرته إلى معاناة قاسية. وهكذا هو الحال في عقود الإذعان.
3) ومن الناحية التاريخية، فقد تم فرض إذعان أمتنا للحاكم باسم الدين، واعتبار طاعته المطلقة من طاعة الله، وذلك بموجب الفتاوى الشرعية لفقهاء السلاطين، في حين تم جلد وتعذيب علماء الشرع الذين لم يقبلوا بذلك. وعندما استوردنا الدساتير في وطننا العربي المنكود، لتنصّ على أن الشعب مصدر السلطة، قتل الفقه الدستوري السلطاني قيمة هذه الدساتير، ولم تعد تشكل عقداً اجتماعياً بين الشعب وبين السلطة التي تحكمه، لأن البطش وخنق الحريات المبرر بالفتاوى السلطانية، ذهب بحكم الدستور والقانون، وحل مكانهما حكم الأشخاص، وتحول العقد الاجتماعي الذي يفترض أن الدستور يجسده، إلى عقد إذعان يفرضه صاحب السلطة على شعبه. فالسلطات الثلاث التي ينص عليها الدستور، أصبحت في عديد من دول الوطن العربي، أشكالاً ديكورية فاقدة القيمة والمدلول، يحركها من تأتمر بأمره، ووظيفتها أن تكون مُطيعة مُذعنة لما يفرض عليها، وأن تشرع النصوص التي تعاقب من لا يذعن من المواطنين لصاحب السلطة، بجرائم شاذة وغريبة على الفكر الإنساني، وعلى شرائع السماء والأرض. أما في دول الحكم المطلق التي تُمارس فيها السلطة باسم السماء في وطننا العربي، فإن عدم طاعة السلطان فيها، تم اعتبارها مخالفة لرب العباد وخروج على مفهوم الفقه السلطاني للدين، وذلك استصحاباً للماضي، وهذا أمرٌ لم تعد تعرفه البشرية البشرية وهجرته منذ قرون.
4) يا إلهي ما أشبه الليلة العربية بشأن الحكم باسم الدين، بالبارحة النابليونية. فقد كان نابليون، وهو من أصل كورسيكي، ملحداً، واختطف الثورة الفرنسية عام 1799 وعمره 29 سنة. وبعد أن اجتاح أوروربا وأحكم قبضته على أهل فرنسا، أصابه الغرور، واكتشف أن طاعة الفرنسيين له، أساسها الخوف من سلطانه، وهذا غير كافٍ عنده، لذلك استحضر بابا روما، الذي كان قد أمر بحبسه، لدهنه بالزيت في حفل تنصيبه امبراطوراً عام 1805، لتباركه السماء وتصبح طاعته من طاعة الله، وأعاد القساوسة ورجال الدين الذين كانت الثورة الفرنسية قد فتكت بهم، وأغدق عليهم، من أجل ربط سلطانه المطلق برب العباد، ليذعن له أهل فرنسا. لكن سلطانه المطلق لم يمنع نهايته المأساوية في المنفى عام 1821.
5) والملاحظ هنا أن ثورات الربيع العربي التي رفع فيها الناس شعارات الحقوق والحريات والديمقراطية وأرعبت السلاطين، لم تؤدّ إلى انحناء هؤلاء أمام شعوبهم، وذلك لأن هناك تآمر عليها لتنحرف عن مسارها وبالتالي، زاد السلاطين من تسلطهم لإرهاب كل من تسوّل له نفسه بعدم الخضوع والإذعان لما يريدون، ليقتصر دور الشعب المذعن، على تمويل خزينة السلطان، والأكل إن وجد الطعام، والإنجاب لزيادة عدد المصفقين الداعين لصاحب السلطان المطلق بطول العمر!
6) لم يعد في عالم اليوم حاكم أو سلطان يحوّل متطلبات العقد الاجتماعي إلى عقد إذعان سوى في الوطن العربي، ولم يعد أحد في عالم اليوم من يعتقد أن بمقدوره وقف حركة التاريخ والتطور سوى في الوطن العربي. إن الحاكم الذي يعبث بحقوق وحريات شعبه، مثل الأم التي تخنق رضيعها حتى لا يزعجها أثناء نومها. فإذا كان العديد من حكام شعوب أمتنا ينظرون إلى شعوبهم قبل الربيع العربي، بأنهم لا يزالون رُضّعاً ويستقوون عليهم، فإن الربيع العربي أعطى الشعوب التي كسرت حاجز الخوف شهادة بلوغ الرشد والوعي، وتجاوز مرحلة الرضاعة التي اعتقدها من يحكمهم. وصمت الشعوب الآن، هو صمت محارب خسر معركة بسبب ظروف متداخلة، لكنها لم تخسر الحرب.
7) كان آخر أباطرة ألمانيا القساة هو الامبراطور ويلهالم الثاني، حيث تولى الحكم إثر موت أبيه عام 1888 بعد (99) يوماً من الحكم، وكانت أم الامبراطور الإمبراطورة فيكتوريا، أميرة انجليزية تحمل في جيناتها الثقافة الديمقراطية الانجليزية، كونها ابنة الملكة فيكتوريا أشهر من تولى الملك في بلاد الانجليز. وحاولت أم الامبراطور الألماني إقناع ابنها بالإفراج عن الحقوق والحريات للشعب الألماني، كما كانت خطة والده، لكن الابن رفض وتجبّر وقاطعها، لأنها تطلب منه أن يضحي بجانب من سلطانه، من أجل الألمان الذين كان جده يطلق عليهم الرعاع (Gutters)، فحزنت الأم وانزوت عن الحياة العامة، وقالت لمن جاءوا لإخراجها من عزلتها، إن ولدي يريد وقف حركة التاريخ والتطور لشعب زاد وعيه وثقافته، وأتمنى أن أموت قبل أن يطيح به شعبه وينكسر، وأراه ذليلاً محطماً إن بقي على قيد الحياة. وتحققت نبوءة الأم، فقد ماتت قبل أن يطيح به شعبه ويعيش في المنفى حتى موته في هولندا عام 1941، فكان آخر ملوك أسرة الهوهنزوليرن التي حكمت ألمانيا أكثر من ألف سنة. وهكذا أحل الألمان مقتضيات العقد الاجتماعي مكان عقد الإذعان. وعلى مدى الستة عقود التي أعقبت الربيع الأوروبي عام 1848، استطاعت شعوب أوروبا، بموجب ثورات دامية ضد كل من لم ينحنِ أمامهم من أصحاب السلطة ويستجيب لإرادتهم، أن يفرضوا العقد الاجتماعي ومتطلباته، مكان عقود الإذعان المهينة لتلك الشعوب، وذلك بموجب دساتير فرض أناسها تطبيقها المتوازن. أما الدساتير التي استوردتها العديد من دول الوطن العربي لتجسد العقد الاجتماعي بين الشعب ومن يحكمه، فقد تم تحويلها في الواقع إلى عقود إذعان، كما أسلفنا، ونسوق الأمثلة التالية:
أ- أن دساتير أوروبا انطلقت من أنه لا يستطيع الوقوف في وجه أي سلطة، إلا سلطة مستقلة مثلها، ومن ثم طبقت مبدأ الفصل بين السلطات على نحوٍ يمنع أي سلطة من التغول، وذلك من أجل حماية حقوق الناس وحرياتهم. أما في الوطن العربي، فقد تحول مبدأ الفصل بين السلطات إلى مبدأ "التواطؤ بين السلطات"، من أجل إذعان المواطن لمن بيده القرار.
ب- ودساتير أوروبا بُنيت على أساس أن التوجه أو الرأي الذي تنطلق منه الحكومات، لا يستطيع رقابته وكشف مدى سلامته، سوى توجه أو رأي آخر منظم، فكانت الأحزاب السياسية وتناوبها على الحكم هي الوسيلة الأساسية التي لا بديل لها لتحقيق ذلك. أما في دول العالم العربي، فالأحزاب إن لم تكن ممنوعة، فإنها ينبغي أن تظل ديكورية فاقدة المدلول، استجابة لأوامر علوية وفقاً لنصيحة بطانات ومستشارين احترفوا الفساد والإفساد وإعلام مأجور للتصفيق، من أجل فرض الإذعان على الناس.
ج- ومبدأ تلازم السلطة والمسؤولية، الذي يجعل كل من يمارس سلطة مسؤولاً أمام الشعب وأمام القضاء، أصبح يغط في سباتٍ عميق، بعد الانفصال الذي تم فرضه بين من يمارس السلطة وبين من يتحمل عنه المسؤولية، وأذعن الجميع لذلك.
د- ومجالس التشريع التي يفترض أنها تجسّد إرادة الشعب وتراقب أداء الحكومات باسمه، أصبح يتم تفصيلها على المقاس عن طريق التزوير، لضمان وجود أغلبيات تُؤمر فتطيع، وعلى الشعب السكوت والإذعان.
وهكذا، فإن ما أوجزناه، فتح باب الفساد والإفساد وعم البلاء، ولم يكن تذمر الناس وشكواهم بذي جدوى.
هذا هو حال العديد من دول خير أمة أخرجت للناس، فهل الإذعان المفروض على أبنائها يمكن أن يدوم؟
1) العقد الاجتماعي في الفكر الدستوري والسياسي المبسط، هو اصطلاح كرسه فلاسفة القرن الثامن عشر لوصف العلاقة التي ينبغي أن تسود بين الشعب وبين السلطة التي تحكمه في أوروبا. ومدلول هذا الوصف يعني أن الشعب يوافق على الخضوع لسلطة الحكم من أجل حماية حقوقه وحرياته ورعايتها وتنميتها. وموافقة الطرفين على ذلك مؤداها تلاقي الإيجاب مع القبول، ونشوء عقد بين الشعب والسلطة يطلق عليه العقد الاجتماعي.
وبمقتضى هذا المفهوم الذي نشره الفلاسفة لطبيعة العلاقة بين الشعب ومن يحكمه، وقر في يقين شعوب أوروبا، بعد أكثر من عشرة قرون من خضوعها لحكم السلطان المطلق، أن لها حريات وحقوق في مواجهة السلطة التي تحكمها، كالتزام يتوجب عليها الوفاء به. فإن انحرفت هذه السلطة أو تخاذلت أو تجاهلت الوفاء بالتزامها، يكون من حق الشعب وواجبه أن يستبدلها بسلطة أخرى. وقد أطلق ميثاق الاستقلال الأمريكي لعام 1776 وإعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي لعام 1789 على حق الشعب في استبدال مثل تلك السلطة، اصطلاح الحق في الثورة، وكان أول من أدخل هذا الاصطلاح توماس جيفرسون عندما صاغ الميثاق الأمريكي، وأصبح بعد ذلك الرئيس الثالث لأمريكا، وكرر الفرنسيون الاصطلاح بوثيقتهم بتأثير جيفرسون الذي كان حتى أواخر عام 1789 سفيراً لأمريكا في فرنسا، وذلك من خلال صديقه الثائر والقيادي في الثورة الفرنسية، الكولونيل لافاييت الذي كان قد شارك في الثورة الأمريكية ضد الانجليز. وقد قامت الثورات الفرنسية الثلاث (أعوام 1789، 1830، 1848) ضد السلطان المطلق، من أجل تعميد مفهوم العقد الاجتماعي في الحكم داخل الدولة. وكانت الثورة الفرنسية الثالثة في 22 شباط 1848، هي التي أشعلت ثورات الربيع الأوروبي، وانتهى الحال إلى انطلاق الدساتير من مدلول العقد الاجتماعي بالمفهوم السابق، وأصبحت تنص على أمرين لا ثالث لهما: حقوق وحريات للمواطنين، وسلطات وظيفتها حماية ورعاية وتنمية الحقوق والحريات تحت رقابة تمنعها من الانحراف، وأصبح الدستور في الدولة هو الذي يجسّد العقد الاجتماعي.
2) أما عقد الإذعان، فهو اتفاق بين طرفين يُملي أولهما إرادته على الآخر، بحيث لا يستطيع هذا الآخر مناقشة ما يريده الأول أو تغيير أو تبديل المفروض عليه، إذ عليه أن يسكت ويذعن. فعلى سبيل المثال، فإن المواطن في عقد توصيل المياه إلى منزله، لا يستطيع أن يناقش بنود العقد الذي تفرضه شركة أو سلطة المياه أو يغير فيها، وعليه أن يسكت ويذعن، لأن البديل لعدم إذعانه حرمانه من المياه، عصب الحياة، وتعريض حياته وحياة أسرته إلى معاناة قاسية. وهكذا هو الحال في عقود الإذعان.
3) ومن الناحية التاريخية، فقد تم فرض إذعان أمتنا للحاكم باسم الدين، واعتبار طاعته المطلقة من طاعة الله، وذلك بموجب الفتاوى الشرعية لفقهاء السلاطين، في حين تم جلد وتعذيب علماء الشرع الذين لم يقبلوا بذلك. وعندما استوردنا الدساتير في وطننا العربي المنكود، لتنصّ على أن الشعب مصدر السلطة، قتل الفقه الدستوري السلطاني قيمة هذه الدساتير، ولم تعد تشكل عقداً اجتماعياً بين الشعب وبين السلطة التي تحكمه، لأن البطش وخنق الحريات المبرر بالفتاوى السلطانية، ذهب بحكم الدستور والقانون، وحل مكانهما حكم الأشخاص، وتحول العقد الاجتماعي الذي يفترض أن الدستور يجسده، إلى عقد إذعان يفرضه صاحب السلطة على شعبه. فالسلطات الثلاث التي ينص عليها الدستور، أصبحت في عديد من دول الوطن العربي، أشكالاً ديكورية فاقدة القيمة والمدلول، يحركها من تأتمر بأمره، ووظيفتها أن تكون مُطيعة مُذعنة لما يفرض عليها، وأن تشرع النصوص التي تعاقب من لا يذعن من المواطنين لصاحب السلطة، بجرائم شاذة وغريبة على الفكر الإنساني، وعلى شرائع السماء والأرض. أما في دول الحكم المطلق التي تُمارس فيها السلطة باسم السماء في وطننا العربي، فإن عدم طاعة السلطان فيها، تم اعتبارها مخالفة لرب العباد وخروج على مفهوم الفقه السلطاني للدين، وذلك استصحاباً للماضي، وهذا أمرٌ لم تعد تعرفه البشرية البشرية وهجرته منذ قرون.
4) يا إلهي ما أشبه الليلة العربية بشأن الحكم باسم الدين، بالبارحة النابليونية. فقد كان نابليون، وهو من أصل كورسيكي، ملحداً، واختطف الثورة الفرنسية عام 1799 وعمره 29 سنة. وبعد أن اجتاح أوروربا وأحكم قبضته على أهل فرنسا، أصابه الغرور، واكتشف أن طاعة الفرنسيين له، أساسها الخوف من سلطانه، وهذا غير كافٍ عنده، لذلك استحضر بابا روما، الذي كان قد أمر بحبسه، لدهنه بالزيت في حفل تنصيبه امبراطوراً عام 1805، لتباركه السماء وتصبح طاعته من طاعة الله، وأعاد القساوسة ورجال الدين الذين كانت الثورة الفرنسية قد فتكت بهم، وأغدق عليهم، من أجل ربط سلطانه المطلق برب العباد، ليذعن له أهل فرنسا. لكن سلطانه المطلق لم يمنع نهايته المأساوية في المنفى عام 1821.
وفي الوطن العربي، فلا يزال أصحاب الحكم المطلق يمارسون السلطة باسم رب العباد، ويستخدم كل سلطان منهم باباوات تلبس العمائم لدهنه بالفتاوى الشرعية التي تجعل جذور سلطانه المطلق مغروسة في السماء. وزيادة في مقارفة الإفك باسم الدين، أنشأ وكلاء السماء على الأرض، منظمات دينية بالغة التطرف، تذبح الناس وتحرقهم، بصفتها مندوبة عن هؤلاء الوكلاء، من أجل إعلاء شأن الحكم المطلق، وإسكات الناس وإذعانهم باسم الدين، مقابل مليارات يقبضها المندوبون، وذلك بالتواطؤ مع أمريكا. وعندما شب بعض هذه المنظمات عن الطوق وانكشف المستور، وافق آباؤها على اعتبارها منظمات تكفيرية، لكن الخلاف دب بين الآباء، بسبب تنازعهم على الأدوار والتنافس على من يكون الأقرب من السيد الأمريكي.
5) والملاحظ هنا أن ثورات الربيع العربي التي رفع فيها الناس شعارات الحقوق والحريات والديمقراطية وأرعبت السلاطين، لم تؤدّ إلى انحناء هؤلاء أمام شعوبهم، وذلك لأن هناك تآمر عليها لتنحرف عن مسارها وبالتالي، زاد السلاطين من تسلطهم لإرهاب كل من تسوّل له نفسه بعدم الخضوع والإذعان لما يريدون، ليقتصر دور الشعب المذعن، على تمويل خزينة السلطان، والأكل إن وجد الطعام، والإنجاب لزيادة عدد المصفقين الداعين لصاحب السلطان المطلق بطول العمر!
6) لم يعد في عالم اليوم حاكم أو سلطان يحوّل متطلبات العقد الاجتماعي إلى عقد إذعان سوى في الوطن العربي، ولم يعد أحد في عالم اليوم من يعتقد أن بمقدوره وقف حركة التاريخ والتطور سوى في الوطن العربي. إن الحاكم الذي يعبث بحقوق وحريات شعبه، مثل الأم التي تخنق رضيعها حتى لا يزعجها أثناء نومها. فإذا كان العديد من حكام شعوب أمتنا ينظرون إلى شعوبهم قبل الربيع العربي، بأنهم لا يزالون رُضّعاً ويستقوون عليهم، فإن الربيع العربي أعطى الشعوب التي كسرت حاجز الخوف شهادة بلوغ الرشد والوعي، وتجاوز مرحلة الرضاعة التي اعتقدها من يحكمهم. وصمت الشعوب الآن، هو صمت محارب خسر معركة بسبب ظروف متداخلة، لكنها لم تخسر الحرب.
7) كان آخر أباطرة ألمانيا القساة هو الامبراطور ويلهالم الثاني، حيث تولى الحكم إثر موت أبيه عام 1888 بعد (99) يوماً من الحكم، وكانت أم الامبراطور الإمبراطورة فيكتوريا، أميرة انجليزية تحمل في جيناتها الثقافة الديمقراطية الانجليزية، كونها ابنة الملكة فيكتوريا أشهر من تولى الملك في بلاد الانجليز. وحاولت أم الامبراطور الألماني إقناع ابنها بالإفراج عن الحقوق والحريات للشعب الألماني، كما كانت خطة والده، لكن الابن رفض وتجبّر وقاطعها، لأنها تطلب منه أن يضحي بجانب من سلطانه، من أجل الألمان الذين كان جده يطلق عليهم الرعاع (Gutters)، فحزنت الأم وانزوت عن الحياة العامة، وقالت لمن جاءوا لإخراجها من عزلتها، إن ولدي يريد وقف حركة التاريخ والتطور لشعب زاد وعيه وثقافته، وأتمنى أن أموت قبل أن يطيح به شعبه وينكسر، وأراه ذليلاً محطماً إن بقي على قيد الحياة. وتحققت نبوءة الأم، فقد ماتت قبل أن يطيح به شعبه ويعيش في المنفى حتى موته في هولندا عام 1941، فكان آخر ملوك أسرة الهوهنزوليرن التي حكمت ألمانيا أكثر من ألف سنة. وهكذا أحل الألمان مقتضيات العقد الاجتماعي مكان عقد الإذعان. وعلى مدى الستة عقود التي أعقبت الربيع الأوروبي عام 1848، استطاعت شعوب أوروبا، بموجب ثورات دامية ضد كل من لم ينحنِ أمامهم من أصحاب السلطة ويستجيب لإرادتهم، أن يفرضوا العقد الاجتماعي ومتطلباته، مكان عقود الإذعان المهينة لتلك الشعوب، وذلك بموجب دساتير فرض أناسها تطبيقها المتوازن. أما الدساتير التي استوردتها العديد من دول الوطن العربي لتجسد العقد الاجتماعي بين الشعب ومن يحكمه، فقد تم تحويلها في الواقع إلى عقود إذعان، كما أسلفنا، ونسوق الأمثلة التالية:
أ- أن دساتير أوروبا انطلقت من أنه لا يستطيع الوقوف في وجه أي سلطة، إلا سلطة مستقلة مثلها، ومن ثم طبقت مبدأ الفصل بين السلطات على نحوٍ يمنع أي سلطة من التغول، وذلك من أجل حماية حقوق الناس وحرياتهم. أما في الوطن العربي، فقد تحول مبدأ الفصل بين السلطات إلى مبدأ "التواطؤ بين السلطات"، من أجل إذعان المواطن لمن بيده القرار.
ب- ودساتير أوروبا بُنيت على أساس أن التوجه أو الرأي الذي تنطلق منه الحكومات، لا يستطيع رقابته وكشف مدى سلامته، سوى توجه أو رأي آخر منظم، فكانت الأحزاب السياسية وتناوبها على الحكم هي الوسيلة الأساسية التي لا بديل لها لتحقيق ذلك. أما في دول العالم العربي، فالأحزاب إن لم تكن ممنوعة، فإنها ينبغي أن تظل ديكورية فاقدة المدلول، استجابة لأوامر علوية وفقاً لنصيحة بطانات ومستشارين احترفوا الفساد والإفساد وإعلام مأجور للتصفيق، من أجل فرض الإذعان على الناس.
ج- ومبدأ تلازم السلطة والمسؤولية، الذي يجعل كل من يمارس سلطة مسؤولاً أمام الشعب وأمام القضاء، أصبح يغط في سباتٍ عميق، بعد الانفصال الذي تم فرضه بين من يمارس السلطة وبين من يتحمل عنه المسؤولية، وأذعن الجميع لذلك.
د- ومجالس التشريع التي يفترض أنها تجسّد إرادة الشعب وتراقب أداء الحكومات باسمه، أصبح يتم تفصيلها على المقاس عن طريق التزوير، لضمان وجود أغلبيات تُؤمر فتطيع، وعلى الشعب السكوت والإذعان.
وهكذا، فإن ما أوجزناه، فتح باب الفساد والإفساد وعم البلاء، ولم يكن تذمر الناس وشكواهم بذي جدوى.
هذا هو حال العديد من دول خير أمة أخرجت للناس، فهل الإذعان المفروض على أبنائها يمكن أن يدوم؟
بالتأكيد، فإن دوام الحال من المحال، فاعتبروا يا أولي الألباب، وعودوا إلى العقد الاجتماعي الذي ينصف أطرافه، قبل فوات الأوان.