jo24_banner
jo24_banner

الذبح والحرق بين الإسلام القرآني وفقه التكفيريين وإسلام السلاطين

أ. د. محمد الحموري
جو 24 :
في كتابي (الحريات الأسيرة بين استبداد الحكم واستغلال الدين وطريق الخلاص) الذي نشرته المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت قبل أيام، بحثت موضوع الحريات في العالم العربي، وخشية السلطة من ممارسة الناس لحرياتٍ حقيقية، فكان الحل وضع هذه الحريات في الأسر، وذلك بالاستناد إلى تخريجاتِ فقهٍ سلطاني سواءٌ من النصوص الوضعية أو النصوص الشرعية، وفي الحالين تم استغلال التكوين التراثي للإنسان العربي في صبره وسكوته على استبداد الحكم، حتى طال الأسر، فكان اندفاع الناس في الربيع العربي وسيلتهم لكسر القيود، تماماً كما حدث في الربيع الأوروبي عندما انطلق في شباط / فبراير عام 1848. ودرستُ موضوع الإرهاب كيف بدأ وإلى أين أوصلنا.

وكان من بين الموضوعات العديدة التي تعرضتُ لها في بحثي الأصل الشرعي لعقوبتي الذبح والحرق التي تطبقهما منظمات التكفير على خصومها باسم الاسلام، وراعني ما توصلت إليه من شذوذ هذا السلوك وخروجه على صحيح الإسلام، وضرورة كشفه للناس، للتأكيد بالأدلة على أن الإسلام بريء من هذا السلوك، وأوجز ذلك كما يلي:

1.الزنديق الذي استند إليه ابن تيمية كسلف صالح في عقوبة الذبح:

تستند منظمات التكفير في ذبح الإنسان كعقوبة لمن تعتبره مخالفاً لنهجها، إلى ما جاء في فتاوى بن تيمية (37 مجلداً) الذي أكد في ذلك أنه يستند إلى السلف الصالح، (ص 66 – 71 من المجلد العاشر، وص 20 – 25 من المجلد الخامس) وبدوري، فقد تعقبت التاريخ والفقه لأعرف من هو السلف الصالح الذي استند إليه بن تيمية. ذلك أن الذبح لم يرد في باب الحدود التي نص عليها القرآن الكريم، ومن ثم فليس من حق فقيهٍ أو مجتهد أن يضيف إلى الحدود (العقوبات) القرآنية حداً بسبب مخالفة اجتهاده. ومن غير الممكن أن يدخل الذبح في باب عقوبة التعزير، لأن التعزير في شرع المسلمين هو عقوبة توقع لإصلاح الجاني وتأديبه وتقويم اعوجاجه وليست حداً بالقتل، والرسول (ص) يقول: "من بلغ حداً في غير حد، فهو من المعتدين (السنن الكبرى للبيهقي - أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي المتوفي سنة 458ه، الجزء 8، حديث رقم 16162). أما في تاريخنا، فإني لم أجد أن مسلماً قد ذبح بسبب رأيه، سوى ما فعله خالد بن عبدالله القسري الذي ولاّه الخليفة الأموي العاشر هشام بن عبد الملك على الكوفة عام 105ه/723م. فلإرضاء هشام قام خالد بقتل الفقيه الجعد بن درهم في ذلك العام، عن طريق ذبحه أمام المصلين، ليعبر بذلك عن مدى طاعته لأمر سلطانه خليفة المسلمين بشأن من اجتهد برأي فقهي لا يتفق مع المذهب السياسي الذي استخلصه الأمويون من الشرع. وتستحق قصة وحشية هذا النهج في قتل المجتهد وصاحب الرأي أن نوجزها.

فعندما ضج المسلمون على قتل سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بسبب خدعة رفع المصاحف على رؤوس السيوف/الرماح التي استقاها عن عمر بن العاص، معاوية بن أبي سفيان مؤسس حكم البيت الأموي، ووجهوا أصابع الاتهام بمخالفة الشرع إلى معاوية الذي اهتزّ مركز خلافته، فما كان من معاوية إلا أن خطب بالمسلمين يقول: إن الله قد وضع في اللوح المحفوظ مسار الحياة لكل إنسان: متى يولد، وكم سيعيش، وكيف ستكون حياته، ومتى يموت وكيف سيموت. ومدون في هذا اللوح المحفوظ متى يولد علي بن أبي طالب، ومتى يموت وكيف سيموت، كما هو مدون أيضاً متى يولد معاوية وكيف سيصبح خليفة ومقدار مدة خلافته، وكيف ومتى سيموت. وليس من حق من يؤمن بالإسلام أن يعترض على حكم الله المدون في اللوح المحفوظ، لأن الإنسان مسيّر وليس مخيّرا، ويحكم مسار حياته مبدأ الجبر، ومن ثم فإن كلاً من عليّ ومعاوية لا خيار لهما فيما يحدث معه!! وفي هذا يقول القاضي عبد الجبار (المغني، الجزء 8، ص 26 - 27):

"وذكر شيخنا أبو علي رحمه الله (أي أبو علي الجبائي رئيس علماء الكلام في عصره، توفي عام 303ه/916م): إن أول من قال بالجبر وأظهره معاوية، وأن ما يأتيه بقضاء الله ومن خلقه ليجعله عذراً فيما يأتيه ويتوهم أنه مصيب فيه، وأنه جعله إماماً وولاه الأمر، وفشا ذلك بين ملوك بني أمية".

كما يقول بن قتيبة الدينوري (تاريخ الخلفاء، الجزء1، ص 183)، أن معاوية قطع الطريق على أي اجتهاد بهذا الشأن عندما قال: "إن هذا قضاء من قضاء، وليس للناس خيرة في أمرهم".

وانتشر مذهب الجبرية الذي يمحو إرادة الإنسان، كوسيلة شرعية لتبرير ما فعله معاوية، وأصبح المذهب الذي استندت إليه الشرعية الدينية للعهد الأموي. وخلال فترة تولي هشام بن عبدالملك خلافته (من 105 – 125ه)، وصلته شكوى بحق فقيه يسمى الجعد بن درهم، تؤدي اجتهاداته إلى تقويضن حكم الأمويين. وكان الأمويون قد اعترفوا بالقدرة الفقهية للجعد هذا، عندما اختاروه معلماً ومربياً لأبنائهم من الأمراء بسبب علمه وسعة اطلاعه، ومنهم مروان الثاني بن محمد بن مروان بن الحكم، المولود عام 72ه، الذي أصبح فيما بعد خليفة، وكان آخر خلفاء بني أمية. ومضمون الشكوى التي خشي منها هشام على حكم بني أمية، أن الجعد بن درهم خطب بالناس يقول، إن أفعال الإنسان سواء كانت خيراً أو شراً هي من صنعه وحده، أي من صنع الإنسان، وحاشى الله جلت قدرته أن يجبر الإنسان على فعل القبح والشر، ثم يعاقبه على ذلك، لأن عدل الله تعالى يوم الحساب لا يقبل بعقاب إنسان على خطيئة أجبره سبحانه على مقارفتها. وآيات القرآن الكريم، نصت على أن العقل هو مناط الحساب، فإن فعل قبحاً كان ذلك باختياره وخضع للحساب، إذ الإنسان مخيّر في هذه الدنيا. وأصبح ما توصل إليه الجعد لاحقاً يسمى مذهب العدل. وفي هذا المجال، كان يمكن اعتبار أن الجعد قد اجتهد، وقد يصيب في اجتهاده وقد يخطئ. لكن أهل السياسة الذي يستمدون سلطانهم من الدين، كان لهم رأي آخر. فقد وجد هشام أن مقولة الجعد بن درهم تهدم الأساس الشرعي الذي قام عليه الحكم، فأرسل الجعد إلى خالد بن عبدالله القسري الذي كان قد ولاه على الكوفة عام 105ه، طالباً قتله، لكن خالد اكتفى بحبس الجعد، فغضب هشام من خالد. ولإرضاء هشام، قام خالد بشد وثاق الجعد واقتاده إلى المسجد صباح عيد الأضحى. وبعد أن أنهى خالد خطبة العيد قال:
"أيها الناس ضحّوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مُضحّ بالجعد بن درهم" لأنه قال باجتهاد يخرجه من ملّة المسلمين، ثم نزل وكان الجعد مربوطاً تحت المنبر، فذبحه أمام المصلين كما تُذبح الشاه عام 105ه (ابن الأثير، الكامل في التاريخ، الجزء 4، ص466، ابن تيمية، الفتاوى، الجزء 10، ص 66 – 67).

أما عن نهاية خالد القسري فنقول، كان الخليفة هشام قد عزل خالد عام 120ه، وتولى الخلافة بعد هشام، ابن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان عام 125ه، فنازعه في الملك ابن عمه يزيد، وانحاز محمد بن خالد القسري إلى يزيد، فما كان من الوليد بعد انتصاره، إلا أن استدعى خالد القسري لسؤاله عن ولده، فقال لا أعلم أين هو، فقام الوليد باسترجاع ما كان خالد قد جمعه أثناء ولايته على الكوفة ومقدره (50) مليون درهم، وفوق ذلك اتهمه بالزندقة وباعه في سوق النخاسة، ولقي خالد من الإهانة والذل والتعذيب ما عجل بموته عام 126ه (ابن الأثير، الجزء 4، ص 476 – 478).

وعود على بن تيمية، فإن السلف الصالح الذي اقتدى به في ذبح المخالف بالرأي، هو خالد بن عبدالله القسري والي هشام على الكوفة، الذي أراد أن يتقرب من سلطانه، بذبح مسلم مجتهد، بعد أن تم اعتباره خارجاً على شرع المسلمين وفق المفهوم السلطوي الأموي. والذبح عند بن تيمية" يكون بالسيف أو نحوه، (أي بخنجر أو سكين) لأن ذلك أروح أنواع القتل... بشرط أن يتم حد الشفرة" (ابن تيمية، المجلد 28، ص 313 – 314). فأي سلف صالح هذا الذي اقتدى به بن تيمية في تقرير نهج الذبح كعقوبة في الشريعة الإسلامية، ليصبح الشذوذ الذي مارسه الزنديق خالد القسري، جزءاً من عقيدة المسلمين، وشرعاً إسلامياً يتفاخر به التكفيريون عندما قاموا بترقية أبو مصعب الزرقاوي الذي ورثت داعش نهجه إلى منصب "أمير الذباحين" ثم إلى "رئيس مجلس شورى المجاهدين"، ليباشر تقديم الفتاوى الشرعية بالذبح، رغم سطحية معرفته بعلوم الشرع وأحكامه التي اقتصرت على ما سمع عنها بالسجن من بعض رفاقه المساجين، ثم يظهر علينا في هذا الزمان من سار على ذات النهج من خوارج العصر مثل داعش وباقي زمرة التكفيريين. وهذا ما دفع (126) عالماً من الدول الإسلامية على رأسهم سمو الأمير غازي بن محمد، بتوجيه رسالة مطولة (32 صفحة) إلى إبراهيم عبدالله البدري الملقب بالخليفة أبو بكر البغدادي بتاريخ 19/9/2014، بشأن مخالفة أفعال داعش لنهج الإسلام القويم. وللعلم هنا فقد وزع تنظيم داعش في الموصل وحلب بعد احتلالهما كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي تحتوي على تعاليم المذهب الوهابي سواء من حيث حكم الشرع على السلوك والاعتقاد أو من حيث اعتبار أن الطاعة المطلقة لولي الأمر الحاكم من طاعة الله. (الإمام محمد بن عبدالوهاب، العقيدة والآداب الإسلامية، المجلد الأول، دار بن تيمية، الرياض، 2010، الرسالة الثانية عشرة ص 335 و ص 349).
 
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير