ما يريده جلالة الملك.. وما يُعطّله فرسان النهج العرفي!
أ. د. محمد الحموري
جو 24 :
كتب أ. د. محمد الحموري -
خلال الأسابيع الماضية، لفت انتباهي في عدد من المناسبات الاجتماعية، ما سمعته من مناقشات حول لقاء جلالة الملك مع طلاب الجامعات. لم أكن قد سمعت ما قاله جلالة الملك، لكن من ساعدني باستخدام وسائل التكنولوجيا، مكنني من الاستماع بإصغاء الى حديث جلالته. وقد كان حديثاً صريحاً وواضحاً بأنه يطمح إلى أن يكون في الأردن حزبان كبيران أو ثلاثة، من أجل الوصول إلى أغلبيات نيابية تشكل الحكومات وتتناوب على الحكم، ويصبح لدينا مؤسسيّة في تعيين رؤساء الوزارات والوزراء، وندخل حقبة النظام البرلماني الذي نص عليه الدستور منذ عام 1952. وهذه القناعة عند جلالته، ما يزال يعرب عنها منذ عام 2012، وتكررت في أوراقه النقاشية. لكن عدم وصولنا إلى تجسيد هذه القناعة على الواقع في الدولة، سببه نهج الحكومات وأجهزتها وليس الشعب، بدليل أن الشعب عام (1956)، على قلة مؤسساته التعليمية، أفرز أغلبيات حزبية، وتشكلت حكومات برلمانية. لكنه منذ عام 1957، تناوبت علينا حكومات فرضت الأحكام العرفية، وجرّمت وجود الأحزاب السياسية والانتماء إليها، وحلّت القرارات العرفية مكان حكم الدستور والقانون، في جميع شؤون الدولة. وخلال الـ (30) سنة اللاحقة، تكون نهج عرفي في الحكم، نقل السلطة الحقيقية في الدولة بشكلٍ فعلي، من السياسي إلى الأمني ومدرسته وأتباعه، وساد حكم الأشخاص بدل حكم القانون، وأصبح تعيين رؤساء الوزارات والوزراء ومن يشغلون المواقع القيادية، شأناً يهيمن عليه الأمني، ومعياره الوحيد كلمة الولاء الذي لا يعرف مضمونه غيره. وترتب على ذلك تجريف الكفاءات وتغييب الحريات، والحجر على سيف عدالة القضاء ليبقى في غمده، لأن القرارات العرفية تحظى بقدسية تمنع الطعن فيها أمام المحاكم.
ورغم ذلك كله، فإن تعطش الشعب الأردني لحكمٍ ديمقراطي، جعله يفرز عام (1989) مجلس نواب متميز، عندما أُتيحت له الحرية في انتخابات نزيهة ووفق قانون انتخاب يمكّنه من اختيار الكفاءات وأصحاب الطروحات، مع أن الأحزاب وقتها كانت ممنوعة، وتم إنهاء الحالة العرفية، وإعادة الهيبة إلى الدولة وسيادة حكم القانون والدستور، وبهذا أعيد الأمني ومن يسبحون في فلكه من فرسان النهج العرفي إلى أحجامهم وحدودهم.
لم يحتمل من كانوا أصحاب امتيازات ومنافع ونفوذ أيام حقبة النهج العرفي، ما حدث من تطور ذهب بسلطانهم، فكان العلاج حل مجلس النواب قبل انتهاء مدته عام (1993)، تحت معاذير شتى لتنفرد الحكومة بإلغاء قانون الانتخاب الذي جاء بمجلس عام 1989، وتُصدر قانون الصوت الواحد المؤقت الذي أوصى به من يعلمون جيداً، أن تطبيق هذا القانون، سوف يعيد حكم النهج العرفي، ولكن هذه المرة بموجب قوانين وليس قرارات عرفية، ولا زلنا نعيش هذه المرحلة التي تفاقم الحال خلالها، حيث قادت ممارسات الحكومات وأجهزتها، الى تعديلات دستورية أخلّت بتوازن السلطات، حتى بلغ الأمر إعطاء الملك سلطات دستورية ينفرد بها على حساب الولاية العامة للحكومات، رغم أنها تتعارض مع النص الدستوري الذي يعفي الملك من كل تبعة ومسؤولية، بل ورغم أن ذلك يفقد نظامنا السياسي هويته البرلمانية. هذا مع العلم أن جلالة الملك في الدولة الأردنية لم يكن بحاجة إلى هذه السلطات منذ صدور دستور عام 1952، وأنه لا يوجد مثيل لها في أية ديمقراطية معاصرة تنتهج النظام البرلماني.
وفوق ذلك، فقد تم تشريع قوانين أفرغت عديد الحريات من مضامينها، وكرست نظاماً انتخابياً عمّد الجهوية والمناطقية والانتماءات الفرعية ومزّق لحمة المجتمع. فكانت نتيجة ذلك، منع تجاوب مسيرة الدولة مع قناعة الملك. ومن الواضح هنا أن المحصلة التي يريد أن يصل إليها جلالته، تتعارض مع منافع أصحاب المصالح والامتيازات من أهل النهج العرفي وأزلامه، وتذهب بنفوذهم، وتتراجع هيمنة من بيدهم السيطرة الفعلية على القرار. ذلك أنه في حالة وجود أحزاب أو ائتلاف أغلبية نيابية حزبية، وحزب أقلية معارض، فهذا يعني بالضرورة أنه وفقاً للدستور، فإن جلالة الملك سوف يكلف رئيس الأغلبية بتشكيل الحكومة لتطبيق البرنامج الانتخابي الذي فازت بالانتخابات على أساسه. ورغم أن ذلك هو ما يريده ويسعى إليه جلالة الملك، فإن هذا سوف ينهي نفوذ أباطرة النهج العرفي ومن يستحوذون على سلطات واقعية فاقدة السند القانوني والدستوري، وسيختفي دورهم في تشكيل الوزارات وتعيين الوزراء وكبار المسؤولين، ولن تعود لأي منهم شلّة تتبعه ويوجهها داخل الحكومة، وسوف تُقفل أمامهم أبواب العبور إلى ما تعودوا عليه من امتيازات ونفوذ. وفوق ذلك، فمثل هؤلاء، لن يكون لهم أي تأثير في إقالة حكومة الأغلبية، لأن غيرها لن يعطيه نواب الأغلبية الثقة، كما لن يكون لهم أي تأثير لحل مجلس النواب، لأن ذلك يحتاج إلى قرار من الحكومة التي تمثل أغلبية المجلس.
وهكذا، فما دام من بيدهم النفوذ والمصالح والمزايا، يستطيعون كما هو حاصل الآن، تعطيل نمو الأحزاب، وفرض نظام انتخابي يفرز أفراداً من النواب كل منهم أقلية، وليس أحزاباً وتكتلات برامجية، فلماذا يسمحون بتغيير النهج ضد أنفسهم ما داموا قادرين على منعه بوسائلهم التي تعودوا عليها. ومن هنا فإننا نكرر التأكيد بأن العيب هو في النهج وفرسانه، الذين أقفلوا رحابة الأبواب الدستورية أمام الناس وأحزابهم، وخاصة شباب الجامعات، حيث أصبح انتماءهم للأحزاب يخضع لعقوبات واقعية تهدد حاضرهم ومستقبلهم، وهو أمر يتعارض مع ما يوجبه الدستور ومع القناعة التي يؤكد عليها جلالة الملك.
ما سبق هو جانب محوري، من أوجه الخلل التي استقرت في نهج دولتنا في الحكم، ومن غير إصلاح يقوده جلالة الملك، لتغيير النهج وفرسانه، فلن يتحقق الإصلاح الذي يرمي إليه جلالته.