مخالفات دستورية جسيمة في قانون الانتخاب
أ. د. محمد الحموري
جو 24 : قرأت بعناية، النصوص التي نشرتها الصحافة الأردنية لمسودة قانون الانتخاب، وحمدت الله على أن أهل الحل والعقد عندنا، قد توصلوا إلى أن قانون الصوت الواحد، الذي أمضيت أكثر من عشرين سنة منادياً بتغييره، لا يناسب دولتنا، ومن ثم أعلنوا بنصوص المسودة وفاته. ومع أن في مجتمعنا السياسي من هو مؤهل لإحياء القوانين بعد الإعلان عن موتها ودفنها، إلا أنني واثق من صدق نية حكومة الدكتور عبدالله النسور على دفن قانون الصوت الواحد قبل مغادرتها الحكم.
وفي الوقت الذي أجد أن مسودة القانون الجديد تشكل خطوة إصلاحية إلى الأمام، إلا أنه لا يجوز أن نخلط بين النظام الانتخابي الوارد في المسودة، وبين النظام الانتخابي الذي قامت على أساسه انتخابات عام 1989، لأنه لا صلة ولا شبه من أي نوع بين النظامين.
والملاحظات التي يمكن أن تُبدى على مسودة القانون نوعان:
* النوع الأول: مدى الملاءمة في النظام الانتخابي الذي جاءت به النصوص، وهذه تدخل في باب المسائل الاجتهادية حول من هو الأفضل، هذا الاجتهاد أو ذاك، ويمكن أن تختلف بشأنها وجهات النظر، لكنه لا شأن لها بالسلامة الدستورية لأي من هذه التوجهات. ولذلك، فإني لن أتحدث بهذه الأمور الاجتهادية في هذه المرحلة، لأن الأولوية عندي هي للنوع الثاني.
* النوع الثاني: هي الملاحظات المتعلقة بالسلامة الدستورية لما ورد في بعض نصوص المسودة. وفي هذا المجال، فسوف أعرض لملاحظتين دستوريتين أساسيتين تشكلان البداية والمنطلق، تاركاً عرض باقي الملاحظات إلى وقتٍ آخر، إن احتاج الأمر.
- الملاحظة الأولى: هل يجوز من الناحية الدستورية تقسيم الدوائر وتحديد عدد المقاعد بموجب نظام؟
أعتقد أن في نصوص دستورنا من الوضوح، ما يعطي جواباً شافياً في هذا الصدد. فالمادة (67) من الدستور تنص على ما يلي: "يتألف مجلس النواب من أعضاء منتخبين انتخاباً عاماً ومباشراً وفاقاً لقانون الانتخاب".
ووفقاً لهذا النص فإن عبارة "قانون الانتخاب" لا تترك جانباً يرتبط بالانتخابات النيابية يفلت من التنظيم بموجب قانون، وعلى وجه الخصوص تقسيم الدولة إلى دوائر انتخابية وتحديد عدد المقاعد النيابية لكل دائرة.
وهنا نجد أنه على خلاف هذه القاعدة، فإن المادة (8/أ) من مسودة قانون الانتخاب تنص على ما يلي: "تقسيم المملكة إلى دوائر انتخابية يخصص لها مائة وثلاثون مقعداً نيابياً وفقاً لنظامٍ خاص يصدر لهذه الغاية".
وفي ملّتي واعتقادي أن هذا النص ينطوي على خروجٍ صريح على المطلوب في قانون الانتخاب المسمى الوارد في المادة (67) من الدستور، ويفرغه من مضمونه، وذلك للأسباب التالية:
أ- إن تقسيم الدولة إلى دوائر انتخابية وتحديد عدد المقاعد المخصصة لكل دائرة، ليس موضوعاً إدارياً يُترك أمره للحكومة لتنظمه بمقتضى نظامٍ تصدره، وإنما هو موضوعٌ يرتبط بشكلٍ مباشر بحقوقٍ وحرياتٍ دستورية لمواطنين، ولتجمعاتٍ ووحداتٍ بشرية لها توجهاتها السياسية والاجتماعية، ولها مصالحها المتنوعة، ولا يجوز تنظيمه أو تناوله بنظامٍ تصدره الحكومة.
ب- إن النظام الذي تصدره الحكومات وفقاً للدستور الأردني، إما أن يكون نظاماً مستقلاً يتم إصداره استناداً إلى الدستور مباشرةً، كما هو الحال في الأنظمة المحصورة في المواد (120، 114، 45/2) من الدستور، وإما أن يكون نظاماً تنفيذياً وظيفته مجرد تفصيل ما أجمله القانون، دون إضافة أي حكم إليه، وذلك وفقاً للمادة (31) من الدستور. وتقسيم الدوائر وتحديد عدد المقاعد لكل دائرة بموجب نظام، لا يدخل تحت أي من هذين النوعين من الأنظمة.
ج- إن النص في قانون الانتخاب على أن يكون تقسيم الدوائر الانتخابية وعدد المقاعد المخصصة لها بموجب نظام، يعني أن السلطة التشريعية تفوض الحكومة بإصدار قواعد عامة ومجردة تمس حقوق الأردنيين وحرياتهم بموجب نظام. وهذا التفويض للحكومة لا تملكه السلطة التشريعية، لأن إصدار التشريع الذي يحكم تلك الحقوق والحريات هو الواجب الأساسي لسلطة التشريع، وغير قابلٍ للتفويض. والدستور الأردني لا يعرف النظام التفويضي الذي تفوض السلطة التشريعية بمقتضاه السلطة التنفيذية إصدار أنظمةٍ لها قوة القانون. فهذا الأمر لم يأخذ به الدستور الأردني ولم ينص عليه ولا يعرفه نظامنا الدستوري بأي وجهٍ من الوجوه، إذ اكتفى الدستور الأردني في هذا المجال بإعطاء الحكومة صلاحية إصدار قوانين مؤقتة لها قوة القانون، وفقاً لشروطٍ دستوريةٍ محددة.
د- أما الحجة بأن جعل تقسيم الدوائر الانتخابية جزءاً من القانون، سيؤدي إلى اختلاف النواب وهم يحاولون محاباة دوائرهم الانتخابية والحصول على مكاسب لها، فإن ذلك وغيره من الأحاديث التي تُلقى على عواهنها، لا يشكل سنداً يبرر مخالفة الدستور. ومن جانبٍ آخر، فإن مثل هذا القول يصلح "لطق الحنك" لتمضية الوقت في الدواوين والمضافات، لأن تقسيم الدوائر في الدولة، أي دولة، تحكمه أسس علمية تقوم على ثلاثة عناصر هي، العنصر السكاني والعنصر الجغرافي والعنصر التنموي، وتعطي الدول وزناً لكل عنصر، لتتوصل بمحصلة هذه الأوزان، إلى معيار يحكم تقسيم الدولة إلى دوائر انتخابية وعدد المقاعد المخصصة لكل دائرة. وأظن أن أي رجل دولة في حكومتنا يعرف ذلك، ولن يغيب عنه هذا الأمر، لأنه ليس أمامه خلافه. وأعتقد أن طرح الحكومة هذه المنهجية العلمية التي تحكم تقسيم الدوائر على النواب، سيكون رادعاً لأية مطامح شخصية أو مناطقية. ثم لماذا لم تتعلل الحكومات الأردنية على مدى عقود من الزمن بموضوع اختلاف النواب على التقسيم، لتستأثر بسلطة تقسيم الدوائر الانتخابية، إذ استمر تقسيم الدوائر كجزء من قانون الانتخاب طيلة هذه العقود. والفترة الوحيدة التي حدث فيها هذا الاستئثار، هي الفترة التي استقوت فيها الحكومات على ما عداها، وفرضت ما تريد دون أن تأبه بدستور!
وأخيراً،
فإننا نؤكد، أنه ما دام أن النظام الذي تنص عليه مسودة قانون الانتخاب سوف يُنشئ دوائر انتخابية، ويخلق إلى الوجود مراكز قانونية من خلال تحديده لعدد النواب في كل دائرة وما يتبع ذلك من حقوقٍ وواجباتٍ، فليس أمام الحكومة سوى أن تجعل تقسيم الدوائر الانتخابية وعدد المقاعد المخصصة لهذا جزءاً من القانون. وبخلاف ذلك فإن إعطاء الحكومة صلاحية تقسيم الدوائر بموجب نظام، يشكل مخالفةً جسيمة للدستور تنحدر به إلى درجة الانعدام لا محالة.
الملاحظة الثانية: هل يتفق الانتخاب بالقائمة النسبية مع دستورنا:
أدرك جيداً أن نظام القائمة النسبية الذي جاء في مسودة القانون، قد سبقته دراسات وحسابات وإحصائيات كثيرة ومتنوعة، قامت بها الجهات المعنية بهذا الأمر في دولتنا، من أجل معرفة الكيفية التي ستكون عليها تركيبة مجلس النواب، وما سيدخل إليه من توجهات وقوى سياسية فردية أو مؤطّرة. وهذا من حيث المبدأ يشكل نهجاً للسلطة السياسية في الدولة الأردنية عوّدتنا عليه. لكنه من حيث الناحية الدستورية بالنسبة لنظام القائمة النسبية، فإن هذا النظام ينبغي أن لا يخرج على ما جاء في الدستور الأردني. وهنا نتبين ما يلي:
أ. إن المادة (67) من الدستور تستوجب أن يكون الانتخاب مباشراً، أي أن يختار الناخب مرشحاً باسمه وبذاته أو مرشحين بأسمائهم وذواتهم، أما الانتخاب بالقائمة النسبية فمؤداه أن يكون على الناخب إعطاء صوته للقائمة، ويؤشر على الأسماء التي يختارها منها، وبعد أن تظهر نتائج الفرز تُعطى القائمة مقاعد بنسبة الأصوات التي حصلت عليها، إذ الوزن هنا لما حصلت عليه القائمة من أصوات وبعد ذلك يكون الفوز داخل هذه القائمة تبعاً لعدد التأشيرات على الأسماء. وبالتأكيد فإن هذا النوع من الانتخاب لا يكون انتخاباً مباشراً على النحو الذي يتطلبه الدستور، وإنما انتخاباً غير مباشر. وليس صحيحاً ما يبديه البعض من حجج وذرائع لإدخال نظام القائمة النسبية هذا تحت نص المادة (67) من دستورنا، قياساً على ما تأخذ به دولٌ أخرى، ذلك أن الدول الأخرى تلك، تنص دساتيرها على الأخذ بنظام القائمة النسبية. ومن ثم فإن الذي يتفق مع دستورنا هو الأخذ بنظام القائمة التي يشكلها الناخب نفسه ويختار أعضاءها بشكلٍ مباشر من بين جميع المرشحين في دائرته الانتخابية.
ب. ويقطع بسلامة ما نقول ما جاء في الفقرة الأولى من المادة (71) من الدستور التي تتحدث عن حق الناخب في الطعن أمام محكمة الاستئناف بصحة نيابة النائب الذي فاز في دائرته الانتخابية. فالنص هنا يتحدث عن مرشحٍ فرد تم اختياره وفاز في الدائرة الانتخابية، ووجد أحد الناخبين أو بعضهم أن الفوز ينطوي على مخالفاتٍ تبطل عضوية هذا النائب الفائز، مثل حمل الفائز لجنسية دولة أخرى، أو أن عمره أقل من (30) سنة لكنه قدم شهادة ميلاد مزورة، وقدم الناخب طعناً في هذا الفوز. ووفقاً للفقرة (2) من المادة (71)، فإن على المحكمة إن وجدت أساساً للطعن أن تحكم ببطلان نيابة النائب وتعلن اسم النائب الذي فاز. وهذا الأمر لا يتحقق إلا في القائمة التي يشكلها الناخب حسب قناعته من بين جميع المرشحين في الدائرة، إذ لا يؤثر بطلان نيابة الفائز على سلامة نيابة زملائه الذين نجحوا من القائمة، لأن الأصوات التي حصل عليها لم تجتذب أصواتاً لذات القائمة أو تعطي وزناً لها وبالتالي لم تساهم تلك الأصوات في نجاح هؤلاء الزملاء.
أما في حالة إعلان بطلان نيابة أحد الفائزين من القائمة النسبية، للأسباب الواردة في المثال السابق، فإن المحكمة لا تستطيع إعلان اسم أي فائز، لأن الحكم بالبطلان ينسحب على جميع من فازوا من القائمة، ولتوضيح هذا الأمر نقول، لو افترضنا أن دولة الدكتور عبدالله النسور بعد ترك الوزارة ترشح للانتخابات ضمن قائمة بعدد المقاعد المخصصة لدائرته الانتخابية، في هذه الحالة، فإن اسم الدكتور النسور سوف يجتذب أصوات ناخبين للقائمة، ويفيد من هذه الأصوات زملاءه في القائمة. فإذا أبطل القضاء نيابة الدكتور النسور، فإن هذا الإبطال سوف يلحق بالضرورة بمن فاز من زملائه بسبب إفادتهم من الأصوات التي اجتذبها للقائمة.
وبالتأكيد، فسوف يمتد هذا البطلان بموجب الحالة النسبية إلى جميع القوائم الأخرى. وهذا الوضع لم يتصوره الدستور ولا من وضعه حتى يفردوا له نصوصاً تحكمه. فأباء الدستور وضعوا نصوصاً تحكم انتخاباً مباشراً لمرشح باسمه أو مرشحين بأسمائهم، ومن هنا أوجبوا على المحكمة في الفقرة (2) من المادة (71)، عندما تحكم بعدم صحة نيابة النائب المطعون في نيابته، أن تعلن اسم النائب الفائز، وأوجبوا على مجلس النواب في الفقرة (3) من ذات المادة إعلان بطلان نيابة النائب الذي أبطلت نيابته واسم النائب الفائز من تاريخ صدور الحكم، ومثل هذه القواعد الدستورية الآمرة لا تستوعب نظام القائمة النسبية، لخروج هذا النظام بوضوح عليها. ولذلك فإن تلك القواعد في نظامنا الدستوري، لا تستوعب سوى حالة القائمة التي يدون فيها الناخب، أسماء من انتخبهم، على ما أسلفنا.
وفي هذا المجال:
فإنني أنصح الحكومة بأن تتجنب فكرة القائمة النسبية، لأنها مخالفة للدستور حتماً، وأن تأخذ بنظام القائمة التي يستطيع بموجبها الناخب أن يختار مرشحين بعددٍ لا يتجاوز عدد المقاعد المخصصة لدائرته الانتخابية، أي أن يكون للناخب التصويت لقائمةٍ انتخابيةٍ يضعها بكامل حريته، دون أن يُفرض عليه التصويت لقائمةٍ أعدّها له غيره. فهذا الطريق لا يخالف أحكام الدستور.
وفي الوقت الذي أجد أن مسودة القانون الجديد تشكل خطوة إصلاحية إلى الأمام، إلا أنه لا يجوز أن نخلط بين النظام الانتخابي الوارد في المسودة، وبين النظام الانتخابي الذي قامت على أساسه انتخابات عام 1989، لأنه لا صلة ولا شبه من أي نوع بين النظامين.
والملاحظات التي يمكن أن تُبدى على مسودة القانون نوعان:
* النوع الأول: مدى الملاءمة في النظام الانتخابي الذي جاءت به النصوص، وهذه تدخل في باب المسائل الاجتهادية حول من هو الأفضل، هذا الاجتهاد أو ذاك، ويمكن أن تختلف بشأنها وجهات النظر، لكنه لا شأن لها بالسلامة الدستورية لأي من هذه التوجهات. ولذلك، فإني لن أتحدث بهذه الأمور الاجتهادية في هذه المرحلة، لأن الأولوية عندي هي للنوع الثاني.
* النوع الثاني: هي الملاحظات المتعلقة بالسلامة الدستورية لما ورد في بعض نصوص المسودة. وفي هذا المجال، فسوف أعرض لملاحظتين دستوريتين أساسيتين تشكلان البداية والمنطلق، تاركاً عرض باقي الملاحظات إلى وقتٍ آخر، إن احتاج الأمر.
- الملاحظة الأولى: هل يجوز من الناحية الدستورية تقسيم الدوائر وتحديد عدد المقاعد بموجب نظام؟
أعتقد أن في نصوص دستورنا من الوضوح، ما يعطي جواباً شافياً في هذا الصدد. فالمادة (67) من الدستور تنص على ما يلي: "يتألف مجلس النواب من أعضاء منتخبين انتخاباً عاماً ومباشراً وفاقاً لقانون الانتخاب".
ووفقاً لهذا النص فإن عبارة "قانون الانتخاب" لا تترك جانباً يرتبط بالانتخابات النيابية يفلت من التنظيم بموجب قانون، وعلى وجه الخصوص تقسيم الدولة إلى دوائر انتخابية وتحديد عدد المقاعد النيابية لكل دائرة.
وهنا نجد أنه على خلاف هذه القاعدة، فإن المادة (8/أ) من مسودة قانون الانتخاب تنص على ما يلي: "تقسيم المملكة إلى دوائر انتخابية يخصص لها مائة وثلاثون مقعداً نيابياً وفقاً لنظامٍ خاص يصدر لهذه الغاية".
وفي ملّتي واعتقادي أن هذا النص ينطوي على خروجٍ صريح على المطلوب في قانون الانتخاب المسمى الوارد في المادة (67) من الدستور، ويفرغه من مضمونه، وذلك للأسباب التالية:
أ- إن تقسيم الدولة إلى دوائر انتخابية وتحديد عدد المقاعد المخصصة لكل دائرة، ليس موضوعاً إدارياً يُترك أمره للحكومة لتنظمه بمقتضى نظامٍ تصدره، وإنما هو موضوعٌ يرتبط بشكلٍ مباشر بحقوقٍ وحرياتٍ دستورية لمواطنين، ولتجمعاتٍ ووحداتٍ بشرية لها توجهاتها السياسية والاجتماعية، ولها مصالحها المتنوعة، ولا يجوز تنظيمه أو تناوله بنظامٍ تصدره الحكومة.
ب- إن النظام الذي تصدره الحكومات وفقاً للدستور الأردني، إما أن يكون نظاماً مستقلاً يتم إصداره استناداً إلى الدستور مباشرةً، كما هو الحال في الأنظمة المحصورة في المواد (120، 114، 45/2) من الدستور، وإما أن يكون نظاماً تنفيذياً وظيفته مجرد تفصيل ما أجمله القانون، دون إضافة أي حكم إليه، وذلك وفقاً للمادة (31) من الدستور. وتقسيم الدوائر وتحديد عدد المقاعد لكل دائرة بموجب نظام، لا يدخل تحت أي من هذين النوعين من الأنظمة.
ج- إن النص في قانون الانتخاب على أن يكون تقسيم الدوائر الانتخابية وعدد المقاعد المخصصة لها بموجب نظام، يعني أن السلطة التشريعية تفوض الحكومة بإصدار قواعد عامة ومجردة تمس حقوق الأردنيين وحرياتهم بموجب نظام. وهذا التفويض للحكومة لا تملكه السلطة التشريعية، لأن إصدار التشريع الذي يحكم تلك الحقوق والحريات هو الواجب الأساسي لسلطة التشريع، وغير قابلٍ للتفويض. والدستور الأردني لا يعرف النظام التفويضي الذي تفوض السلطة التشريعية بمقتضاه السلطة التنفيذية إصدار أنظمةٍ لها قوة القانون. فهذا الأمر لم يأخذ به الدستور الأردني ولم ينص عليه ولا يعرفه نظامنا الدستوري بأي وجهٍ من الوجوه، إذ اكتفى الدستور الأردني في هذا المجال بإعطاء الحكومة صلاحية إصدار قوانين مؤقتة لها قوة القانون، وفقاً لشروطٍ دستوريةٍ محددة.
د- أما الحجة بأن جعل تقسيم الدوائر الانتخابية جزءاً من القانون، سيؤدي إلى اختلاف النواب وهم يحاولون محاباة دوائرهم الانتخابية والحصول على مكاسب لها، فإن ذلك وغيره من الأحاديث التي تُلقى على عواهنها، لا يشكل سنداً يبرر مخالفة الدستور. ومن جانبٍ آخر، فإن مثل هذا القول يصلح "لطق الحنك" لتمضية الوقت في الدواوين والمضافات، لأن تقسيم الدوائر في الدولة، أي دولة، تحكمه أسس علمية تقوم على ثلاثة عناصر هي، العنصر السكاني والعنصر الجغرافي والعنصر التنموي، وتعطي الدول وزناً لكل عنصر، لتتوصل بمحصلة هذه الأوزان، إلى معيار يحكم تقسيم الدولة إلى دوائر انتخابية وعدد المقاعد المخصصة لكل دائرة. وأظن أن أي رجل دولة في حكومتنا يعرف ذلك، ولن يغيب عنه هذا الأمر، لأنه ليس أمامه خلافه. وأعتقد أن طرح الحكومة هذه المنهجية العلمية التي تحكم تقسيم الدوائر على النواب، سيكون رادعاً لأية مطامح شخصية أو مناطقية. ثم لماذا لم تتعلل الحكومات الأردنية على مدى عقود من الزمن بموضوع اختلاف النواب على التقسيم، لتستأثر بسلطة تقسيم الدوائر الانتخابية، إذ استمر تقسيم الدوائر كجزء من قانون الانتخاب طيلة هذه العقود. والفترة الوحيدة التي حدث فيها هذا الاستئثار، هي الفترة التي استقوت فيها الحكومات على ما عداها، وفرضت ما تريد دون أن تأبه بدستور!
وأخيراً،
فإننا نؤكد، أنه ما دام أن النظام الذي تنص عليه مسودة قانون الانتخاب سوف يُنشئ دوائر انتخابية، ويخلق إلى الوجود مراكز قانونية من خلال تحديده لعدد النواب في كل دائرة وما يتبع ذلك من حقوقٍ وواجباتٍ، فليس أمام الحكومة سوى أن تجعل تقسيم الدوائر الانتخابية وعدد المقاعد المخصصة لهذا جزءاً من القانون. وبخلاف ذلك فإن إعطاء الحكومة صلاحية تقسيم الدوائر بموجب نظام، يشكل مخالفةً جسيمة للدستور تنحدر به إلى درجة الانعدام لا محالة.
الملاحظة الثانية: هل يتفق الانتخاب بالقائمة النسبية مع دستورنا:
أدرك جيداً أن نظام القائمة النسبية الذي جاء في مسودة القانون، قد سبقته دراسات وحسابات وإحصائيات كثيرة ومتنوعة، قامت بها الجهات المعنية بهذا الأمر في دولتنا، من أجل معرفة الكيفية التي ستكون عليها تركيبة مجلس النواب، وما سيدخل إليه من توجهات وقوى سياسية فردية أو مؤطّرة. وهذا من حيث المبدأ يشكل نهجاً للسلطة السياسية في الدولة الأردنية عوّدتنا عليه. لكنه من حيث الناحية الدستورية بالنسبة لنظام القائمة النسبية، فإن هذا النظام ينبغي أن لا يخرج على ما جاء في الدستور الأردني. وهنا نتبين ما يلي:
أ. إن المادة (67) من الدستور تستوجب أن يكون الانتخاب مباشراً، أي أن يختار الناخب مرشحاً باسمه وبذاته أو مرشحين بأسمائهم وذواتهم، أما الانتخاب بالقائمة النسبية فمؤداه أن يكون على الناخب إعطاء صوته للقائمة، ويؤشر على الأسماء التي يختارها منها، وبعد أن تظهر نتائج الفرز تُعطى القائمة مقاعد بنسبة الأصوات التي حصلت عليها، إذ الوزن هنا لما حصلت عليه القائمة من أصوات وبعد ذلك يكون الفوز داخل هذه القائمة تبعاً لعدد التأشيرات على الأسماء. وبالتأكيد فإن هذا النوع من الانتخاب لا يكون انتخاباً مباشراً على النحو الذي يتطلبه الدستور، وإنما انتخاباً غير مباشر. وليس صحيحاً ما يبديه البعض من حجج وذرائع لإدخال نظام القائمة النسبية هذا تحت نص المادة (67) من دستورنا، قياساً على ما تأخذ به دولٌ أخرى، ذلك أن الدول الأخرى تلك، تنص دساتيرها على الأخذ بنظام القائمة النسبية. ومن ثم فإن الذي يتفق مع دستورنا هو الأخذ بنظام القائمة التي يشكلها الناخب نفسه ويختار أعضاءها بشكلٍ مباشر من بين جميع المرشحين في دائرته الانتخابية.
ب. ويقطع بسلامة ما نقول ما جاء في الفقرة الأولى من المادة (71) من الدستور التي تتحدث عن حق الناخب في الطعن أمام محكمة الاستئناف بصحة نيابة النائب الذي فاز في دائرته الانتخابية. فالنص هنا يتحدث عن مرشحٍ فرد تم اختياره وفاز في الدائرة الانتخابية، ووجد أحد الناخبين أو بعضهم أن الفوز ينطوي على مخالفاتٍ تبطل عضوية هذا النائب الفائز، مثل حمل الفائز لجنسية دولة أخرى، أو أن عمره أقل من (30) سنة لكنه قدم شهادة ميلاد مزورة، وقدم الناخب طعناً في هذا الفوز. ووفقاً للفقرة (2) من المادة (71)، فإن على المحكمة إن وجدت أساساً للطعن أن تحكم ببطلان نيابة النائب وتعلن اسم النائب الذي فاز. وهذا الأمر لا يتحقق إلا في القائمة التي يشكلها الناخب حسب قناعته من بين جميع المرشحين في الدائرة، إذ لا يؤثر بطلان نيابة الفائز على سلامة نيابة زملائه الذين نجحوا من القائمة، لأن الأصوات التي حصل عليها لم تجتذب أصواتاً لذات القائمة أو تعطي وزناً لها وبالتالي لم تساهم تلك الأصوات في نجاح هؤلاء الزملاء.
أما في حالة إعلان بطلان نيابة أحد الفائزين من القائمة النسبية، للأسباب الواردة في المثال السابق، فإن المحكمة لا تستطيع إعلان اسم أي فائز، لأن الحكم بالبطلان ينسحب على جميع من فازوا من القائمة، ولتوضيح هذا الأمر نقول، لو افترضنا أن دولة الدكتور عبدالله النسور بعد ترك الوزارة ترشح للانتخابات ضمن قائمة بعدد المقاعد المخصصة لدائرته الانتخابية، في هذه الحالة، فإن اسم الدكتور النسور سوف يجتذب أصوات ناخبين للقائمة، ويفيد من هذه الأصوات زملاءه في القائمة. فإذا أبطل القضاء نيابة الدكتور النسور، فإن هذا الإبطال سوف يلحق بالضرورة بمن فاز من زملائه بسبب إفادتهم من الأصوات التي اجتذبها للقائمة.
وبالتأكيد، فسوف يمتد هذا البطلان بموجب الحالة النسبية إلى جميع القوائم الأخرى. وهذا الوضع لم يتصوره الدستور ولا من وضعه حتى يفردوا له نصوصاً تحكمه. فأباء الدستور وضعوا نصوصاً تحكم انتخاباً مباشراً لمرشح باسمه أو مرشحين بأسمائهم، ومن هنا أوجبوا على المحكمة في الفقرة (2) من المادة (71)، عندما تحكم بعدم صحة نيابة النائب المطعون في نيابته، أن تعلن اسم النائب الفائز، وأوجبوا على مجلس النواب في الفقرة (3) من ذات المادة إعلان بطلان نيابة النائب الذي أبطلت نيابته واسم النائب الفائز من تاريخ صدور الحكم، ومثل هذه القواعد الدستورية الآمرة لا تستوعب نظام القائمة النسبية، لخروج هذا النظام بوضوح عليها. ولذلك فإن تلك القواعد في نظامنا الدستوري، لا تستوعب سوى حالة القائمة التي يدون فيها الناخب، أسماء من انتخبهم، على ما أسلفنا.
وفي هذا المجال:
فإنني أنصح الحكومة بأن تتجنب فكرة القائمة النسبية، لأنها مخالفة للدستور حتماً، وأن تأخذ بنظام القائمة التي يستطيع بموجبها الناخب أن يختار مرشحين بعددٍ لا يتجاوز عدد المقاعد المخصصة لدائرته الانتخابية، أي أن يكون للناخب التصويت لقائمةٍ انتخابيةٍ يضعها بكامل حريته، دون أن يُفرض عليه التصويت لقائمةٍ أعدّها له غيره. فهذا الطريق لا يخالف أحكام الدستور.