jo24_banner
jo24_banner

جنازة يمني في الأردن!

حمزة العكايلة
جو 24 : قادتني الصدفة إلى غرفة الموتى في أحد المستشفيات في العاصمة عمّان، كنت في مراجعة أنا ووالدي وأخي "يصغرني سناً بـ 3 أعوام"، إلى والدتي حيث كانت في مراجعة هناك، وهي بأفضل صحة الآن والحمد لله.

رائحة الموت كانت تسكن الدرج المؤدي إلى الغرفة المظلمة، بعد أن ضللنا الطريق إلى الصيدلية، وقفنا ثلاثتنا، نحدق في اللافتة "كل نفس ذائقة الموت"، وبجوارها رجل أربعيني يجلس على ركبتيه، ذو بشرة تشبه ثمر الصنوبر، بنية قاتمة، لكن فيها لمعان إثر الدمع، بلل شاربيه الطويلين، وبدت كتفاه، تنحنيان إلى صدره، وفي أنفاسه تنهيده حارة، أخذ ينتحب مثل طفل صغير "يا أبي".

كان المشهد مؤلماً، حزيناً، ومخيفاً، رجل يجلس وحده الساعة العاشرة ليلاً في أسفل أدراج المستشفى عند غرفة الموتى، وقفنا ثلاثتنا فوق رأسه، وكان أبي أكثر تأثراً، وكاد الدمع يتطاير من عينيه، قال له "الرجال ما تبكي".

تنهد الرجل، وقال: بل تبكي تبكي.

وحدي عرفت أنه يمنيّ، فقد زاملت عدداً منهم في جامعة اليرموك شمال الأردن، وأعرف لهجتهم وهدوئهم، حيث كنا ندرس الإعلام سوية.

أخذ أبي يعزيه، بينما كان يذكر مناقب أبيه، ويبكي أحياناً ثم سرعان ما حاول إخفاء دمعه عنّا، ويقول: ما أصعب موته، لا أعرف ماذا أفعل، أين أذهب، جئت به مريضاً لكن أراد أن يعود معي وكان يحدثني عن عرس أخي وماذا سنعد له من ولائم، ثم بكى وتنهد وأطبق يحدق في سقف الغرفة .ماذا سأقول لأمي وإخوتي؟.

تدارك أبي الأمر وأدرك أن بقاء الرجل في هذه الحال سيجعله في حال انهيار، قال له تعال معنا إلى البيت وسنتدبر تجهيز جثته، وقف الرجل "حتى اللحظة لا أعرف اسمه"، عانقه أبي، وقال له "شد حيلك" وكأني رأيت حينها دمعة ذرفت من عين أبي، ربما تذكر جدي رحمه الله.

رفض اليمني الذهاب معنا للبيت، وأصر أن يعود للفندق، ويا لتلك الليلة أظنها من أصعب أيام عمره، كنت وأخي في حالة صمت مطبقة، عدنا لأمي وأخرجناها من المستشفى، وطلب أبي من أخي عمر البقاء مع الرجل، وأعطاه مفتاح السيارة وكلفه أن يتدبر معه تجهيزات نقل الجثمان إلى اليمن، من المستشفى فالطب الشرعي ثم السفارة وأخيراً إلى المطار، وحدث هذا، غادرنا اليمني برفقة جثة أبيه.

قبلها، نقل إلينا أخي أن الرجل أراد مكافئته، فعرض عليه مبلغاً من المال. ولا أطيل هنا بوصف الغضب الذي اعترانا جميعاً من تصرفه، لكنه ربما أراد أن يعبر عن امتنانه لنا، ولكن أخي قال له، لقد أعطاني أبي مبلغاً كي أسد أي نقص يصيبك، في تلك اللحظة ابتسم اليمني، وهي المرة الوحيدة التي كان ابن اليمن السعيد مبتسماً فيها، غادر كما يروي أخي وهو مبتسم، وترك معه السلام لنا.

خلاصة القول: الدم اليمني غالي علينا، وحزن وبكى والديّ لموت يمني لا يعرفه، وأراه اليوم أكثر حزناً على شلال الدم هناك. حمى الله اليمن من الشيطان الأكبر والأصغر وأعوانهما.


* نشر بالتزامن مع يمن مونيتور
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير