قدسية الأرض والإنسان
الأرض والإنسان توأمان، فهما أصل ومنشأ ومستقر ومآل واحد، فقد خلق الله الإنسان من ترابها ومائها، وأوجده على الأرض من أجل إعمارها والاستخلاف فيها، « وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً «، وقال تعالى أيضاً :» مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى»، فلا وجود للإنسان ولا كرامة إلّا بالأرض، ولا أمن له ولا استقرار إلّا بحفظ الأرض واستقرارها وحمايتها، ولا ماء له ولا غذاء إلّا منها ومن خلالها، ولا ملجأ له ولا مأوى بعد أن تلفظه الحياة إلّا لديها وفي أحشائها.
أخطأت بريطانيا المستعمرة العظمى ويخطىء العالم كله معها إذا ظنوا يوماً أن تجريد الشعب الفلسطيني من أرضه سوف يكون حدثاً عابراً يطويه الزمن، ويخطئون مرة تلو المرة في العصر الحديث إذا أرادوا الاستمرار في إصباغ الشرعية على الاحتلال الصهيوني والتواطؤ الدائم مع جرائمه العلنية والسرية، والاستمرار في مواصلة الخطأ التاريخي الإنساني الاكثر فداحة في التاريخ البشري الذي أحدث خللاً فظيعاً في منظومة الأمن العالمي، وأوغلوا عميقاً في توهين أسس السلام العالمي لكل شعوب الأرض.
إن إنكار الحقيقة لا يغيرها ولا يبدلها ولا يزيل جوهرها تجاهل الأقوياء، وسوف تبقى حقيقة الأرض متجذرة في الحقيقة الإنسانية الفلسطينية والعربية التي لا تنتزع، وسوف يبقى توارث الحقيقة المرة والفجيعة القاسية جارياً ومتصلاً عبر الأجيال الفلسطينية وعبر الأجيال العربية والإسلامية مهما طال الزمن.
في ذكرى الأربعين ليوم الأرض، تواصل قوات الاحتلال مصادرة المزيد من الأرض، وإقامة المزيد من المستعمرات، وجلب المزيد من المستوطنين، ومواصلة قتل سكان الأرض وأهلها، وتدمير بيوتهم وتشريدهم، وتضييق سبل العيش في وجوههم، وتدنيس مقدساتهم، ومواصلة الروح العنصرية وإقامة الجدران العازلة، والحواجز المدججة بالسلاح التي تمزق الأرض والإنسان، ويواصل الحاخامات الفتاوى التي تعبىء اليهود الغاضبين بمزيد من الكراهية والحقد، لمواصلة طرد الفلسطينيين من أرضهم وديارهم وترحيلهم إلى الدول العربية المجاورة من أجل الاستمرار في مسار التطهير العنصري ومواصلة حرب الإبادة الممنهجة أمام كل دول العالم.
إن مرور (68) عاما على احتلال فلسطين، لم يجعل الفلسطينيين ينسون أرضهم، وقد خططت «اسرائيل» لحرف بوصلة نضالهم وكفاحهم، ومضي هذه المدة الطويلة لم يجعل اليهود الغاضبين أكثر أمناً واستقراراً في الوقت نفسه، ربما ما زال ميزان القوى مختلاً بين الاحتلال من جهة وبين الشعب الفلسطيني المنكوب من جهة اخرى، ولكن اختلال ميزان القوة لن يفت في عضد الشعب الفلسطيني ولن يفت في عضد الأجيال القادمة، لأن الفلسطينيين أصبحوا أكثر وعياً لمخططات الكيان الاحتلالي الاستيطاني، وأصبحوا أكثر قدرة على قراءة المشهد السياسي الفلسطيني والمنطقة، وأصبحوا أكثر إصراراً على المقاومة بكل أشكالها ومساراتها.
الفلسطينيون وهم يحيون الذكرى الأربعين ليوم الأرض، ينبغي أن تتوجه عمليات الإحياء لديهم نحو القراءة العلمية الموضوعية لأوضاعهم وأوضاع عدوهم، ويجب أن يعيدوا تقويم مسارات العمل على كل الأصعدة، وأن يمتلكوا الجرأة في تقويم حركات المقاومة بكل فصائلها، وأن يعرفوا الأجيال الجديدة على مواطن الاخفاق والنجاح، وأن يمكنوا الشباب وهم أصحاب المستقبل الفلسطيني من التأشير على النقاط المظلمة ونقاط التخاذل، وأن تتم الإجابة على الأسئلة الكبرى المتعلقة بحقيقة موازين القوة بدقة، وهل نحن نتقدم إلى الأمام ؟ وهل نحن في كل عام نحقق امتلاك المزيد من أوراق القوة حتى لو كان ذلك بطيئاً ومتدرجاً؟
يجب العمل الحثيث على توحيد الشعب الفلسطيني كله في كل أماكن وجوده، تحت استراتيجية واحدة وشاملة، وأن يتم توزيع الأدوار كل حسب موقعه، فهناك الفلسطينيون المقيمون في فلسطين عام (1948) فهؤلاء لهم دور، وهناك الفلسطينيون المقيمون في الضفة الغربية وغزة المحتلة عام (1967) فهؤلاء لهم دور آخر مختلف، وهناك فلسطينيو الشتات وهؤلاء أيضاً لهم دورهم المنوط بهم، وكلهم يجب أن يرموا عن قوس واحدة وفقاً لرؤية عامة موحدة، وخطوط عريضة، ويجب الحيلولة دون تحويل الشعب الفلسطيني الواحد إلى مجموعة شعوب مختلفة، ومجموعة استراتيجيات ومجموعة رؤى ومجموعة أشواق وطموحات، وهذا يتطلب ممن يتصدر المواقع الأولى في القيادة أن يعمل بهذا الاتجاه وإلّا فإنهم سوف يهدرون المزيد من الوقت الضائع، والعدو يلتهم الأرض ويتفوق علينا بالقوة والسياسة والتخطيط والتنفيذ.