ينبغي أن يحسم الاستفتاء الجدل في مصر
ليس هناك سلطة تعلو سلطة الشعب في كل دول العالم، والشعب هو صاحب السيادة العليا على الأرض والأشخاص والمقدرات، وهو مصدر السلطات، في كلّ ما عرفه البشر من أعراف، وهو مقتضى العقل والمنطق، وهذا ما نصّت عليه الدساتير المعاصرة بلا أدنى خلاف فهذه إحدى البديهيات التي لا تخضع للنقاش.
عندما يحتدم الخلاف بين مكونات المجتمع وأطرافه السياسية، وينعدم التوافق على بعض القضايا الكبيرة أو الصغيرة، لا بدّ من العودة إلى صاحب السلطة الحقيقية، الذي يمثل المرجعية العليا في الحكم بين المختلفين، خاصة فيما يتعلق بالدستور الناظم لأعمال السلطات الكبرى التشريعية والتنفيذية والقضائية التي ينبغي أن تمارس سلطتها المشروعة المستمدة من الدستور.
من الأفضل بكل تأكيد أنّ يتمّ التوافق على كل مواد الدستور، ولكن هناك بعض المواد سوف تبقى محلاً للخلاف، وقد لا تتجاوز 5%، إذ لا يعقل أن ننتظر تحصيل الإجماع بنسبة 100% على كل مواد الدستور، فإذا تعذر التوافق على هذه النسبة البسيطة من المواد، فلا بدّ من حسمها عن طريق الاستفتاء الشعبي العام الذي يعبّر عن إرادة الشعب العامّة التي يجب أن يخضع لها كل الشعب بغض النظر عن الآراء المختلفة، وبعد الاستفتاء يجب أن تتوقف كلّ أشكال التظاهر والخروج والتعبئة التي تمّ استخدامها من أجل التأثير على نتائج الاستفتاء ويجب أن ينصرف الجميع نحو العمل.
تشير نتائج الاستفتاء على الدستور المصري في المرحلة الثانية إلى أنّ 71% من الناخبين قال نعم مقابل 29% قال لا، وفي المرحلة الأولى كانت النتائج على النحو الآتي: 56.5% قالوا نعم، مقابل 43.5% قالوا لا، في حين أنّ نتيجة الاستفتاء في الخارج أشارت إلى أنّ 67.5% قالوا نعم، في حين أنّ 32.5% قالوا لا، ممّا يعني أنّ النتيجة النهائية تكون قد حسمت بـ 64% نعم، مقابل 36% لا، وهذا يدلّ على أنّ الذين قالوا نعم يشكلون ضعفي الذين قالوا لا، بنسبة تقترب من الثلثين.
الدستور المصري الجديد يمثل حالة متقدمة جداً على الصعيد العربي، وهو يمثل نقلة هائلة تستحق التقدير والإعجاب مع الاحترام لرأي المخالفين، وأدعو جميع السياسيين والباحثين، كما أدعو كل الشباب؛ بل كل من يستطيع القراءة والبحث أن يقرأ الدستور المصري بنفسه، ولا يكتفي بما يحاول الآخرون خلقه من الانطباعات المسبقة سواءً كانت ايجابية أم سلبية، وقد قرأت بعض ما كتب ظلماً وبهتاناً بحق الدستور المصري، ممّا دفعني للاطلاع عليه، فوجدت أنّ بعض من انتقد هذا الدستور ينطبق عليه المثل العامّي الذي يتمّ ترديده أحياناً من باب السخرية "الكذب ملح الرجال". فالدستور المصري الجديد يرسي معايير العدالة والمساواة، على أسس المواطنة المصرية، ويحرّم الإساءة لجميع الأديان والرسل، وينصف المرأة، وينصف الأقليات، ويحترم التعددية السياسية والحزبية، ويكرّس الفصل بين السلطات، وينص على تقدير وتشجيع الأدب والفنّ والإبداع، وحماية حرية الرأي وحق التعبير عن الرأي، وضمان حرية الاعتقاد وحرية التنقل والإقامة والهجرة.
ممّا يسترعي الانتباه نص الدستور المصري الجديد على المعاملة المالية لرئيس الجمهورية حيث لا يجوز له أن يتقاضى أي مرتب أو مكافأة أخرى، ولا أن يزاول مهنة حرة أو عملاً تجارياً أو مالياً أو صناعياً، طوال مدة توليه المنصب، ولا أن يشتري أو يستأجر شيئاً من أموال الدولة، ولا أن يؤجرها أو يبيعها شيئاً من أمواله، ولا أن يقاضيها عليه، ولا أن يبرم معها عقد التزام أو توريد أو مقاولة.
ويتعين على رئيس الجمهورية تقديم إقرار ذمّة مالية، عند تولّيه المنصب، وعند تركه وفي نهاية كل عام، ويعرض على مجلس النواب.
وإذا تلقى بالذات أو بالواسطة هدية نقدية أو عينية بسبب المنصب أو بمناسبته، تؤول ملكيتها إلى الخزانة العامّة للدولة، فهذا ما تحتاجه الدساتير العربية الجديدة في هذه الأوقات.
الدستور المصري الجديد لا يمثل نهاية المطاف، فسوف يبقى محلاً للمراجعة والتطوير، من أجل إدخال مزيد من التحسينات ومزيد من المواد الجديدة التي تمثل تلبية تطلعات الأجيال بما يضمن وجود الدولة الحديثة وتطورها، وفي الوقت نفسه سوف تبقى هناك بعض الأصوات المعارضة، وسوف يستمر وجود بعض العوائق في الطريق نحو التقدم والإنجاز، ولكنها لن تحول دون تقدم الشعب المصري نحو الحرية والديمقراطية الحقيقية.
(العرب اليوم )