التوجيهي والمعلمون والتصحيح
منذ أن كانت عمان قرية، ومنذ أن كانت الموازنة العامة بحجم يقل عن 1/20 من حجم الموازنة في هذه الأيام، وكانت تلاع العلي ومثيلاتها من ضواحي عمان الراقية عبارة عن سهول من القمح، والإشارات الضوئية في شارع المدينة المنورة، كانت بيادر للقمح والشعير وحولها الخيول والماعز.. وطريقة إدارة امتحانات التوجيهي وطريقة تصحيح أوراق التوجيهي حتى هذه اللحظة ما زالت تدار بالطريقة نفسها لم تخضع لأي تحسين أو تطوير يذكر..!!
يخرج المعلمون والمعلمات في ظلمات الغسق في الصباح الباكر، تلفح وجوههم النسمات الباردة، ويعودون بعد آذان العشاء إلى بيوتهم، ويمضون سحابة اليوم بطونهم خاوية إلاّ من قرقعة الشاي والقهوة رديئة الصنع والإعداد والنوعية، يجلسون ما يقارب "تسع ساعات" على مقاعد الطلاب الخشبية الضيقة المهترئة التي تم اعدادها على زمن المرحوم وزير التربية الأسبق "ذوقان الهنداوي" أو من سبقه وفي قاعات باردة كالثلاجة في مدارس الطلاب تفوح منها رائحة "الكاز" المنبعث من الصوبات اليابانية المقلدة التي يتم تصنيعها لفقراء العالم الثالث عشر، الممزوجة برائحة الصدأ "والفتيلة" الخربانة التي تخرج "الشحبار" الذي يأخذ طريقه إلى أنوف المعلمين وقصباتهم الهوائية، ويتراكم في شعيرات الرئة من أجل استدعاء مرض السرطان الملعون المتعاقد مع الأغلبية الساحقة من هذا الشعب الغلبان.
لقد جلست على هذه المقاعد الضيقة عدداً وافراً من الساعات، وأعتقد أن معظم المسؤولين كانوا معلمين في وزارة التربية ومنهم كما أظن وقيل لي أن رئيس الوزراء الحالي، ربما جلس هذا المجلس وبالطريقة نفسها قبل ما يقارب الأربعين عاماً، وما زالت يا دولة الرئيس، هي الجلسة نفسها والمقاعد نفسها التي ملئت بذكريات الطلاب العاشقين المحفورة بعمق على واجهات "الرحلايات" الخشبية الخشنة والمليئة بصور القلوب التي تخترقها الأسهم المبدوءة بحرف، ومنتهية بحرف آخر باللغة الإنجليزية، ترمز لأسماء العاشقين الذين أعادوا سيرة قيس وليلى.
كل هذا التقدم وهذا التطور المذهل الذي طال العالم وطال الأردن وعاصمتها الكبيرة التي أصبحت مليئة بالعمارات الزجاجية المؤثثة بالخشب الفاخر، والمفروشة بالسجاد، وتتمتع بالدفء، وآلات صنع القهوة الفاخرة، ومع ذلك فإن هذا التقدم لم يصل بعد إلى امتحان التوجيهي وطريقة تصحيح أوراقه، وكيفية الجلوس وكيفية الحصول على الدفء، وربما التطور الوحيد الملفت للانتباه في هذه العملية الذي يستحق الذكر هو ما يتعلق بأكواب الشاي والقهوة التي كانت فيما سبق زجاجاً قابلة للكسر وبحاجة إلى غسيل وشطف دائم، أصبحت من البلاستيك والورق المقوّى الذي يسهم في إيجاد طبقة دهنية على سطح الشاي، لتعمل عملها بالإضافة إلى "الشحبار" السابق.
الله أكبر يا جماعة، منذ ذلك الوقت ألم نستطع أن نخصص مراكز خاصة معدّة لتصحيح الأوراق، فيها مقاعد محترمة، تليق بالجلسة الطويلة التي ينبغي أن تكون مريحة بالحد الأدنى، وتخصيص وجبات محترمة لهم يتم اعدادها من مطاعم محترمة، وتكون هذه المباني مدفأة بتدفئة مركزية لمدة أسبوع أو عشرة أيام على الأقل أم أن هذا مجرد أضغاث أحلام!
هل التقشف وتحمل عجز الموازنة لا يلتصق إلاّ بهذه الفئة التي تمارس العمل الشاق بكل معانيه وتفاصيله، وهل هذا التقشف يتجلّى في الوزارات الأخرى والمؤسسات الأخرى المستقلة على سبيل المثال؟!
إذا أردنا أن نقترب نحو الكلام الجاد في هذا الموضوع، فأقل ما يقال فيه أنه غير مقبول على الإطلاق، وأن هذه الطريقة التي يتم فيها تجميع المعلمين في قاعات مدارس الطلاب والقيام بالتصحيح بهذه الصورة، أمر لا يليق بكرامة المعلم ولا بكرامة الآدمي، ولا يجوز الاستمرار بهذا الأسلوب المزري، فضلاً عن الأجر القليل الذي يتقاضونه والذي أمتنع عن ذكر مقداره لأنه يدعو إلى الحياء والخجل.
لا سبيل إلى النهوض بالأردن سياسياً واقتصادياً واجتماعياً إلاّ من خلال ثورة علميّة تعليمية بكل معنى الكلمة، تعني بالمعلم أولاً وبالمنهج والطالب وكل أركان العملية التعليمية والتربوية كأولوية أولى وقصوى تبدأ بالجوهر، قبل الشكل والحملات الدعائية وحملات التزلف.
(العرب اليوم )