أبانا الذي في الدائرة أغثنا بتزويد النيابة العامة بأسمائهم
الكل يعلم أنك القادر على كشف المخبوء، ولديك الملفات الجاهزة، وتلك التي في طريق التجهيز. أتباعك المجندون، اخترقوا الشبكات في الخارج، ورفاقك ممن سبقوك، تحدثت عنهم كتب القادة ممن يعملون في الخفاء في بلاد تفصلنا عنها المحيطات، إطراءً وشكراً وعرفاناً. وأنفارك في الداخل، مزروعون في كل مكان حيث كان يُطلق عليهم في حقبة من تاريخنا اسم "البصّاصين"، وفي الوقت الحاضر أصبح اسمهم مخبرين، ولديهم من وسائل التنصت والاستماع والتصوير ما يجعلهم قادرين على معرفة ما في الأرحام. ولهذا فإنه لا تخفى عليهم خافية، يفهمون لغة النمل وهي تخاطب بعضها، وكأنهم من أنسال سيدنا سليمان، وتقاريرهم تخبرك بما يدور في دواخل الناس قبل أن يظهر على ألسنتهم، وليس هناك من يجلس على كرسي الوظيفة قبل العودة بشأنه إلى المدون عنه في سجلات عندكم لا تغيب عنها شاردة ولا واردة. وحتى أغلبيات مجالس النواب ومجالس الأعيان ومجالس الوزراء، فإن مفهوم الأردنيين أنكم تعينون المحظوظين وتباركون لهم قبل التشكيل. أقول أغلبيات لأنه لا يفوت الدائرة أن تترك بعض المقاعد لمن يعارض وينفعل ويرفع الصوت، ما دام أن هذا في المحصلة سيكون دون جدوى، لأن هذا ما يقتضيه الشكل الديمقراطي المطلوب، اعذرني يا أبانا، فإن الصراحة عليّ واجبة، الأمر الذي جعلني أنزل الأشخاص منازلهم الواقعية وليست الإعلامية، ليأخذوا ما يستحقونه من أحجامٍ وأوزان.
واستصحاباً لخمسين سنةٍ عشتها مع النظم القانونية والسياسية باحثاً ومراقباً، أفيد من تاريخها، وأحلل واقعها، وأرقب مستقبل حركتها، فإني أعتقد أنه لو أجمع علماء السياسة عندنا، وتمكنوا حتى من إقناع مرتزقتها، بتوجهٍ للأردن لا ترضى عنه الدائرة، لتم رفض هذا التوجه، وأمامنا قانون الصوت الواحد الذي تمت التضحية من أجل فرضه بعدة حكومات، ودمغ وزراء ونواب وأعيان عند شعبهم بأوصاف ونعوت سمعوها بآذانهم، أُشفق على أبنائهم وأحفادهم منها. اعلم جيداً أن دولة رئيس وزرائنا الدكتور عبدالله النسور قال وأكد أنه أقوى منك، وأنه بذكائه الذي أعرفه، كان يستند إلى نصوص دستورية واضحة كأساس لقوته كرئيس حكومة، واستنفر ذلك بداخلي أمنيات بضرورة سيادة أحكام الدستور، لكني أخشى أن يكون الواقع غير ما قاله الرئيس وما أحياه عندي من أمنيات. فالأمر عندي وفقاً لتجارب آخر عشرين سنة، مختلف جداً، إذ الرؤساء عابروا سبيل وأنت المستمر، وقد يؤدي تقرير واحد منك، إلى "ترميج" وزارة، والسوابق عندنا موجودة لمن يرصد ويتابع. وأصدقك القول، أن سمعة الدائرة قد ملأت الآفاق، فقد سألني أحد طلابي في برنامج الدراسات العليا، في كلية الحقوق/ جامعة فريبورغ في سويسرا، عن أكثر ما تشتهر به الأردن. وقلت مفاخراً، طيبة الناس وكرمهم ومستوى تعليمهم... وأضفت فوسفات وبوتاس... والبتراء وجرش وأم قيس...، وزيادة في التفاخر، قلت بيت راس قريتي (خاصة وأنه تم فيها اكتشاف مدرج روماني في حاكورة والدي واستملكت دائرة الآثار أكثر من نصف الحاكورة)، وعندما سكتُّ برهة لاستكمال الحديث، فاجأني طالب من أصل ألماني يقول، لقد نسيت أن تذكر لنا الدائرة عندكم، أليست مما تشتهر به دولة الأردن!! ورغم أن موضوعي في الحديث وهو الحقوق والحريات في الأنظمة السياسية المعاصرة يوقظ نفوراً من سلوك أجهزة الدائرة، إلا إني وجدت نفسي تلقائياً أقول، إن وطني يقع وسط إقليم ملتهب، وحمايته عن طريق الدائرة أكثر فاعلية وأقل كلفة من حمايته عن طريق الجيوش!!
يا أبانا الذي في الدائرة، فبعد هذا الذي أسلفت أقول، بالتأكيد أن السجلات عندكم، قد دُوّن فيه كل قرش تم دفعه لشراء الأصوات الإنتخابية، وبجانب المبلغ اسم كل مرشح دفعه، بنفسه أو من خلال وسيط أو سمسار، إذ هناك على كلٍّ من عندكم رقيب وعتيد للرصد والتبليغ، وعليهما تفتيش خوفاً من السهو وعدم التركيز. لكني لا أدري، ما أنتم بتجار الأصوات فاعلون. وأضيف، بأني لا أتجاوز الواقع إن قلت، إني أعتقد أن أمامكم طريقان:
أولهما: الاحتفاظ بالأسماء والأدلة الجرمية التي تدينها، لاستخدامها مستقبلاً، من أجل إجبار من سيصبحوا نواباً، على الانحناء أمام التوجهات التي تصدر لهم مباشرة أو بالـ "ألو". وهذا طريق مدمّر للوطن من الداخل، ويجهز على باقي سمعته في الخارج.
وثانيهما: تزويد النيابة بالأسماء والأدلة لتوقيع حكم القانون عليهم، خاصة وأن نظامنا العقابي يفرض على كل من علم بوقوع جناية أو جنحة أن يبلغ عنها المدعي العام في الحال، وذلك تحت طائلة الجزاء لمن يسكت عن التبليغ. وهذا هو الطريق الأجدى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه عندنا من تدهور الحال.
وفي هذا المجال فقد تابعت الفتاوى الشرعية حول حرمة شراء الأصوات من خلال سابقة، على ما أعلم، هي الإستعانة ببعض أهل الشريعة، حتى غدا يردد تلك الحرمة، طبعاً عند الغارة فقط، إعلام "حبحبني علخدّين"، مع أن هذه الحرمة الدينية تقرر أساسها عند المسلمين منذ (1434) سنة، وبذلك أصبحنا أمام حالة غريبة توحي بأن شهادة الزور لم تكن محرمة شرعاً، عند تزوير الانتخابات السابقة، وخاصة مجلسي عام 2007 ، 2010، وبالتالي لم يحاسب أحد على ذلك، رغم أن الذين قاموا بالتزوير قد اعترفوا بما فعلوا، ولعل السبب أن عمليات التزوير قد حدثت قبل اكتشاف أنها محرمة في الأديان!! ولست أدري إن كان التذكير السلطوي الغائي بالدين وما يستوجبه شرعاً من سلوك لبضعة أسابيع، يجدي. فقبل عشر سنوات، نَشرتُ دراسة ضمّنتها جميع آيات القرآن الكريم التي تحرم التزوير وشهادة الزور، وطالبت أن تبذل الجهات الرسمية وغير الرسمية جهدها في التركيز التثقيفي والتوعوي للناس، على هذا الأمر، ليصبح قيمة سلوكية ومجتمعية، عقاب الخروج عليها في السماء وعند الناس عظيم، فلعل ذلك يردع من يشهد لغير الكفء عندما يعطي في الانتخاب صوته، ويردع الآمر والمأمور بتزوير الانتخابات، إيماناً منه بأن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وحينها كتمت غيظي عندما وجدت أن صرختي ذهبت في وادٍ يقوم عليه غير ذي سمع. أما الآن، فقد أدركت أن صرختي كانت في الوقت الغلط، إذ حينها كانت الحرمة الشرعية للتزوير غير معمول بها عندنا بعد!!
يا أبانا الذي في الدائرة: إنني مقاطع للانتخابات، لأني فاقد الثقة بمخرجات دوائر الصوت الواحد، كما إني لست واثقاً بأن فوز بعض فرسان القوائم، ستتجاوز محصلة جهدهم دور الديكور لتحسين صورة المجلس أمام الأغيار، لكني حريص جداً على عقاب من يشترون ذمم الناس لانتخابهم، وذلك لسببين:
الأول: أن شراء الأصوات استغلالاً لحاجة الناس هو أسوأ أنواع جرائم الفساد، وسوق تجار الأصوات إلى العدالة، يضع حداً لهذا النهج الذي استشرى، ويؤدي إلى أن ينجح الأردن بإجراء انتخابات نزيهة لاحقة، تجري وفق قانون انتخاب متوازن ومحترم يليق بالأردن، تشارك فيها جميع القوى السياسية بعد التخلص من قانون الصوت الواحد اللعين.
الثاني: حتى "لا نتبهدل" أمام العالم الذي يراقب انتخاباتنا، وقد نضطر أن ندفع من الخزينة إكراميات مرتفعة المقدار لإعلام يقوم بالتلميع، أملاً في إطفاء نيران يشعلها التزوير في الداخل.
هذا ما أناشدك به يا أبانا، اللهم إلا إذا كان ما أطلبه، يشكل استئنافاً فاتت مدته، لحكم صدر وأصبح نهائياً وباتاً، مثل حالنا مع بعض ملفات الفساد التي تقدس سرها، وأصبحت ملايينها حقاً خالصاً لمن هم من أهل الخطوة أو أهل الحظوة، وعندها سأقول: لله في بعض الأوطان شؤون، اللهم جيرنا من الأعظم.
ملحوظة:
هذا المقال رفضت الصحافة الورقية نشره، شأنه في ذلك شأن مقالات سابقة، وهذا الرفض جاء على الرغم من أن المادة (15) من الدستور تنص على أن تكفل الدولة حرية الرأي والصحافة والنشر، مما أكد لي أن هناك من هو أقوى من الدستور ومن الدكتور عبدالله النسور، ويجعل من حرية الرأي والنشر مجرد ديكور!!