jo24_banner
jo24_banner

ظواهر اجتماعية تستحق التقدير والإشهار

د. رحيّل الغرايبة
جو 24 : عندما قرأت خبراً تناقلته وسائل الإعلام المحلية عن بعض العمال العرب الوافدين أنهم عثروا على مبلغ "50" ألف دولار، ثم عمدوا إلى تسليمها إلى أحد مراكز الأمن، وتم ضبط محضر باستلام المبلغ، قد شعرت بفرحة غامرة وشعرت بنوبة من النشوة، ذلك بأن هذا المجتمع ما زال يحوي أفراداً بهذه الأمانة وبهذا الطهر، ويحملون هذه الثقافة الرائعة التي تجعلهم لا يتقبلون أكل مال غيرهم بالباطل، رغم العوز والحاجة والفقر بكل تأكيد.

من أهم ما يدعو للإعجاب بهذا التصرف، أن الذي عثر على المبلغ هو أولاً من العمال الذين يحصّلون قوتهم بشكل يومي، فهم ليسوا موظفين ولا يتمتعون بالاستقرار المعيشي والدخل الراتب، وإنما حسب الطلب وتوافر العمل، والأمر الثاني أنهم وافدون، فهم عمال يحملون الجنسية المصرية، ويعيشون الغربة وما تحمله الغربة من آثار نفسانية واجتماعية، ومع ذلك لم تدفعه الظروف القاسية لاتخاذ قرار "بلهط" المبلغ، فهو لم يسرق ولم يسط على بنك ولم يغتصب ولم يحتل، وفوق كل ذلك لم يره أحد! ومع ذلك يبادر من تلقاء نفسه بتسليم المبلغ الذي يُعد كبيراً بالنسبة له ولأمثاله، فهذا عمل يستحق التقدير والاحترام ويستحق التعزيز ويستحق الإشهار.

خبر آخر تناقلته الصحف المحلية يفيد بأن المواطن الأردني "محمود أبو الخير العواقلة" من مدينة الرمثا قام بإعادة مبلغ "38" ألف دينار أردني بما يعادل "55" ألف دولار، إلى الضمان الاجتماعي، لأنها صرفت له خطأ، وأدخلت في حسابه، وهو يرى أنه لا يستحق هذا المبلغ لأن القانون لا يسمح بالجمع بين الضمان والعمل، لأنه حصل على عمل آخر بعد تقاعده.

هذا الخبر يستحق الإعجاب أيضاً لأن الأمر الجوهري فيه يعود إلى الالتزام بقانون الضمان الذي لا يسمح للمتقاعد أن يجمع بين راتبين، ما جعل محمد أبو الخير يقدم على الدخول في الشبهة فقط، فهو بلا شك يتمتع بحس مرهف وهو ينتمي لثقافة اجتنبوا الشبهات، التي تخلق هذا الحس الجميل الذي يستحق الثناء والتقدير.

عندما تتم مقارنة هذه الظواهر بظواهر أخرى نقيضة، مثل السطو على المال العام، وسرقة خزينة الدولة والاعتداء على حقوق المواطنين العامة وممارسة العبث واللصوصية تحت لافتات شرعية ومحاولة تطويع القوانين من أجل التحايل والهروب من العقوبة، ومن أجل مواصلة النهب و "اللهط" و "الشفط" بلا حدود، وبلا رادع من ضمير أو خلق، أو دين أو وطن أو عرف، يقف الإنسان متسائلاً: كيف وصل هؤلاء إلى مواقع القرار والسلطة؟! وكيف تم تمكينهم من المال العام؟! وكيف لم يتم اكتشافهم منذ زمن وقبل أن تقع الفأس بالرأس!!

نحن بحاجة إلى معالجة هذه المشكلة بطريقة علمية سليمة، تتجاوز المسائل الشكلية والإعلاميّة وتعامل الفزعات والعمل العشوائي إلى ضرورة إرساء منهجية فاعلة تقوم على نظام عادل في اختيار الأشخاص وقراءة مسيرتهم الذاتية بدقة أولاً، وثانياً لا بد من وضع نظام رقابي فاعل لا يسمح بالتحايل أو التهرب أو التوسع في الإنفاق غير المشروع، وثالثاً لا بد من وضع تشريع عقابي صارم يستطيع استئصال الأورام الخبيثة من كادر الدولة، ولا يتساهل بإيقاع العقوبة القاسية على من يرتكب جرم الاعتداء على المال العام، ورابعاً نحن جميعاً بحاجة إلى إرساء ثقافة اجتماعية سليمة تبتعد عن الوساطات والمحسوبية والشللية وأثر القرابة النسبية والعشائرية في التعيينات وفي المحاسبة والرقابة وإيقاع العقوبة على من يستحقها، وخامساً يجب الابتعاد عن التعصب الجهوي والديني والمذهبي الذي يمنع وضع الشخص المناسب في المكان المناسب.

في الوقت الذي يجب فيه محاربة ظواهر إساءة الائتمان، والاستغلال الوظيفي، والاعتداء على المال العام، والإخلال بالمعايير العامة، ومخالفة القوانين، يجب في المقابل تعزيز الظواهر الإيجابية التي تعبّر عن الأمانة والعفة وتجنب الشبهة، والنزاهة في التعامل مع المال العام والمصلحة العامة وحقوق المواطنين، وتقدير أصحاب السلوك الوطني النظيف، والضمير الحي، والحس المرهف والخلق الأصيل.
تابعو الأردن 24 على google news