توزير النواب لا يجعل الحكومة برلمانية
كتب محمد الحموري :
عرف النظام البرلماني على مدى تاريخه في العالم، ثلاثة أنواع من التطبيقات التي تصبح فيها الحكومة حكومة برلمانية. ووفقاً لهذه التطبيقات، فإن الحكومة تكون برلمانية إذا شكلها حزب الأغلبية أو ائتلاف أحزابٍ تشكل أغلبية في المجلس النيابي، وهذه الأنواع الثلاثة من التطبيقات هي كالتالي:
التطبيق الأول:
ومهد هذا التطبيق هو بريطانيا التي نشأ فيها النظام البرلماني وتكامل، من ثم صدرت مفهومه إلى دول العالم. وقد بدأ هذا المفهوم في التطبيق في تلك الدولة، أي بريطانيا، منذ عام 1770، عندما أخذ الحزبان الأحرار والمحافظين بالتناوب على الحكم، بحيث يشكل الحكومة حزب الأغلبية، ويكون حزب الأقلية هو حزب المعارضة. ووفقاً للتقليد الإنجليزي الذي بدأ منذ ذلك الوقت، فإنه يشترط في الوزير أن يكون نائباً في مجلس العموم البريطاني، وفي وقت لاحق، أصبح يشترط في المرشح للمجلس النيابي أن يكون عضواً في حزب سياسي، وصاحب ذلك، السماح بتشكيل أحزاب سياسية ذات برامج، يتم تسجيلها في سجل خاص لدى مراقب الشركات، حتى ولو كان الحزب يتكون من شخص واحد، حيث بلغ عدد الأحزاب في بريطانيا حتى الآن حوالي (450) حزباً. والتأصيل التاريخي لما حدث في بريطانيا، هو أن الحزبين، المحافظين والأحرار، قد بدأ كل منهما كتوجّه سياسي في أعقاب ثورة كرومويل عام 1649 ، وتنامى هذا التوجه على مدى قرنٍ لاحق، حتى تطور إلى صورة حزبية متكاملة التكوين واضحة الرؤى والطروحات، وفرضت نفسها على الملك جورج الثالث. وتوصل الحزبان معاً بموافقة الملك على الفصل بين السلطة التي مصدرها الشعب، ومنصب الملك الذي يكون بالوراثة. بعبارةٍ أخرى فقد تكامل النظام البرلماني الإنجليزي بعناصره وأركانه وتناوب الأحزاب على الحكم فيه، حتى غدا هذا التناوب جزءاً لا يتجزأ من هذه العناصر والأركان.
التطبيق الثاني:
وعندما أصبحت الملكيات في أوروبا خلال القرن التاسع عشر تأخذ بالنظام البرلماني الإنجليزي، لم يكن يوجد فيها أحزابٌ متأصلة على النسق الإنجليزي، ومن ثم فقد أصبحت الأحزاب تنمو وتتكامل بعد الأخذ بالنظام البرلماني. ومن هذا المنطلق، فقد منعت دساتير بعض هذه النظم، الجمع بين الوزارة والنيابة، وغدت أحزاب الأغلبية التي نشأت فيما بعد، تشكل الحكومة من قياداتها الموجودة خارج البرلمانات، لتصبح هذه الحكومة هي أداة الأغلبية البرلمانية الحزبية في تنفيذ وتطبيق رؤى الحزب وبرامجه. وقد اقتضى هذا الأمر أن يكون على النائب الذي يصبح وزيراً، تجميد عضويته في مجلس النواب أو الاستقالة منه. وهنا نعطي مثالين على هذه الحالة:
أولهما: الدستور البلجيكي الذي يعتبر المصدر التاريخي للدستور الأردني الصادر عام 1952، حيث تنص المادة (50) من هذا الدستور على ما يلي:
“Any member of one of the two Houses, appointed by the King as a Minister and who accepts this nomination, seizes to set in the House and takes up his mandate again when the King has put an end to his functions as a Minister”.
وباللغة العربية:
" أي عضو في أيٍّ من مجلسي التشريع، تم تعيينه وزيراً من قبل الملك وقبل بهذا التعيين، تجمد عضويته في المجلس، إلى حين موافقة الملك على إنهاء عمله كوزير، حيث يعود بعد ذلك لعضوية المجلس".
ثانيهما: الدستور الهولندي حيث نصت الفقرة (2) من المادة (57) من هذا الدستور على ما يلي:
“A member of the Parliament may not be a Minister… member of the supreme court or prosecutor general…”
وباللغة العربية:
" لا يجوز لأي عضو في البرلمان أن يكون وزيراً... أو عضواً في المحكمة العليا أو مدعي عام..."
التطبيق الثالث:
وهناك دولٌ أخذت بالنظام البرلماني لا تنص دساتيرها على وجوب أو منع نوابها من الجمع بين النيابة والوزارة، ومن هذه الدول أسبانيا والدنمارك. لكن هذه الدول، وضعت منذ البداية التشريعات المطلوبة للوصول إلى أغلبيات برلمانية حزبية. فإسبانيا على سبيل المثال، أدت التشريعات التي وضعتها وتطبيقها السليم إلى وصولها إلى مرحلة الأغلبيات الحزبية خلال عشر سنوات من صدور دستورها البرلماني عام 1978.
وقد أخذ الدستور الأردني لعام 1952 بهذا الاتجاه، فلم يمنع أو يوجب إشراك النواب في الوزارة. لكنه على خلاف دول هذا الاتجاه، فقد استقوت الحكومات الأردنية وأجهزتها على ما عداها لأكثر من نصف قرن حتى الآن، وفرضت على الأردنيين أحكاماً وتشريعات وممارسات، عطلت بموجبها الوصول إلى أحزاب تنمو وبرلمانات تتكون من أغلبيات حزبية. ومؤدى الحالة الأردنية حتى الآن، أنه في غيبة الأحزاب السياسية التي يمكن أن تشكل أغلبية أو يشكل إئتلافها أغلبية لتأليف الحكومة، فإننا نكون أمام نوابٍ أفراد، لا يجمع بينهم برنامجٌ أو خطةٌ ينطلقون منها لتشكيل حكومة، إذ كلُّ واحدٍ من هؤلاء النواب يكون بمفرده أقلية. وحتى لو شكّل النواب كتلاً فيما بينهم كما هو في الواقع الحالي لمجلس النواب، فإن هذه الكتل لا تعدو أن تكون هلامية التكوين، مفتوحة الأبواب للنزوح منها أو اللجوء إليها تبعاً للمصالح والأهواء، ولا يُعرف لأي منها خطة أو طروحات تشكل برنامج حكم لتطبيقه، أو لإعطاء الثقة انطلاقاً من تجاوب الحكومات مع تفصيلاته. وبالتأكيد فإنه أيّاً كان عدد النواب في تلك الكتل، أو كفاءاتهم، فإن كل واحدٍ منهم يظل أقليةً بمفرده، وبالتالي يصبح الحديث عن حكومات برلمانية اسماً على غير مسمى.
وفي المحصلة أتساءل: إذا كان دولة الدكتور عبدالله النسور الذي لا ينتمي إلى حزب أو ائتلاف برامجي، والكثرة الكاثرة من النواب وغير النواب يعتقدون، أن إدخال بضعة نواب لا روابط برامجية بينهم إلى وزارته، يجعل الحكومة حكومة برلمانية، فهل ذلك يمكن أن يكون صحيحاً في أي تطبيق في العالم للحكومات البرلمانية؟ إن الجواب هو النفي بالتأكيد. فنحن في هذه المرحلة ما زلنا لم نحصل بعد على تشريعات وممارسات سلطوية تضعنا حتى على بداية طريق تشكيل أحزابٍ تكون عصية على الإجهاض أو إعاقة النمو، ونظام انتخاب مبني على أسسٍ تقود إلى أغلبياتٍ وحكوماتٍ برلمانية، وحريات تكون حقوقاً لا منحاً من سلطات.
لقد عرف الأردن في ظل دستور عام 1952، حكومة برلمانية واحدة، قاد إليها قانون أحزاب ونظامٍ انتخابي وقوانين حريات تم وضعها في عهد كلوب باشا. وهذه الحكومة هي التي شكلها المرحوم سليمان النابلسي خلال الفترة من 29/10/1956 حتى 10/4/1957، وكانت تلك الحكومة تتكون من إئتلاف حزبي وعدد وزرائها (11) وزيراً، فشكلها المرحوم النابلسي باعتباره رئيساً لحزبٍ نوابه أكثر عدداً من الأحزاب الأخرى، رغم أنه لم ينجح في الانتخابات. وخلال الـ(55) سنة الماضية، تعاقب عندنا رحيل أجيال كانت تعرف ما هي الحكومة البرلمانية، وحل مكانها أجيال طفا على السطح منها، من فرض بالإسكات أو بالمنطق العرفي أو التسويق الإعلامي المأجور، مفاهيم للحكم البرلماني والحكومة البرلمانية، لا شأن لها بدستور أو فقه دستوري، حتى وصلنا إلى حالة من الأمية الدستورية تقول، يكفي لتكون الحكومة برلمانية، أن تحصل على ثقة مجلس النواب، أو يجلس عدد من النواب الداخلين إلى الكتل النيابية أو الراحلين عنها، على الكراسي الوزارية، وغدونا الآن نترحم على تشريعات كلوب باشا ونتمنى الحصول على مثلها.
لا يا سادة، لقد دفعت الشعوب التي فرضت التوازنات الكفيلة بالوصول إلى حكومات برلمانية في أوروبا ثمناً غالياً لتطبيقات متكاملة هي الآن متاحة للإقتداء بها، لكن الذي ينقصنا هو متطلباتها الأساسية مثل، قانون أحزاب غير عقابي، ونظام انتخابي يدفن مرحلة الصوت الواحد، وقانون حريات إعلامية وممارساتٍ لا تُرعب رئيس تحرير أو صاحب رأي، وينبغي وضع مثل هذه القوانين قبل فوات الأوان إذ بغير إصدارها، فلن نضع أقدامنا على طريق الحكومات البرلمانية، وسنبقى نراوح مكاننا، وكأن الكرسي الوزاري أو النيابي غنيمة شخصية، لا وسيلة لبناء دولة وخدمة شعب. وأخشى إن استمرينا على هذا النحو، أن يقودنا الربيع الأردني الذي يطالب بالإصلاح، إلى ما لا تحمد عقباه.