أنـْعَى إليْكُم..!
أجمعتُ العزمَ بعد طول تـَفـَكُّـرٍ وتمعُّن، والقلبُ يقطر حزناً وأسفاً:
أنْ أنْعَى إليكم، المؤتمرات الطارئة وغير الطارئة والمُصَغَّرة، بسائر مسمياتها وعناوينها التي كانت تجمع كل قُطرٍ عربي اللِسان، بأهدافها المُعْلَنَة: مناقشة الأفكار والآراء والتشاور في قضايا الأمة وتحدياتها وتحقيق مستقبل آمِنٍ لشعوبها!
أنْعَى إليكم، العمل العربي المشترك وشعاراته البرَّاقة!
أنْعَى إليكم، مجالس التعاون والتآزر والتكامل والأسواق المشتركة!
أنْعَى إليكم، العهود والمواثيق والاتفاقيات والتوافـُقيَّات فقد صارت كولائم الأحلام!
أنْعَى إليكم، الأمنيات والآمال والأحلام التي كانت نائمة تحت الجفون، التي بُنيت على خِطبٍ ناريةٍ رنَّانةٍ ألهبت الجماهير ثُمَّ خدَّرَتهُم!
أنْعَى إليكم، برقيات الودِّ والموَدَّة التي جرى تبادلها عبر السنوات، وفي سائر المناسبات، وكانت تُوَشَّحُ بأحلى الكلام وأجوده بلاغةً، في تعبيرٍ عن متانة الأواصِر والأخوَّةِ والمصالح المشتركة!
أنْعَى إليكم، القُبُلات الحارة وضمَ الصدور إلى الصدور كلما جرى تبادل الزيارات الرسمية بين الدول، المقرونة بحفاوة الاستقبال والإطراء، وتهليل طلبة المدارس وتصفيقهِم على جَنبات الشوارع، مع كَرَم، بل "حاتمِية" الولائم والمآدب!
أنْعَى إليكم، الأقلام التي كان مِدادها الصدق والأمانة، فحوَّلها أصحابها بغمضة عينٍ، ومع حشْدِ جيوبهم بالمال، للتصَنُّع والممالقة وقلب الحقائق.. وصاروا ومعهم أصحاب دكاكين الإعلام -أوكار النعيق- مِن اللاعبين الحُذاق على حِبال المكر والوقيعة والفتنة!
أنْعَى إليكم، الثقافة التي تعرَّت مِن جِلْدِها الوطني ورسالتها النبيلة الموروثة من تراث أجدادنا وأسلافِنا الأصيل، فصارت في أغلبها وأعمِّها للمُتشدقين والمُتفيْهِيقين والمتلونِين والكسَّابين!
أنْعَى إليكم، مؤتمرات الحِوار والتقارب بمسمياتها المختلفة، فقد عجزت عن هدم جدران الطائفية والعنصرية والمَنْبِتيَّة والدينية. وبدلاً من تحقيق التقارب والانفتاح والتفاهُم الحقيقي، ازداد الاقتتال والعنف والخطف مِن جراء التزَّمُّت والتعصُّب الأعمى والتفرقة حتى بين أتباع الديانة الواحِدة!
أنْعَى إليكم، فئة تسَربلت بأثواب الدِّين والتَّديُّن - والأديان منها براء- وبدلاً مِن نشر المحبة والرحمة ومبادئ اللاعنف، سلكت مَسلك التحريض والتطرف والعُنف وإيقاظ الفِتن النائمة وتغذيتها!
أنْعَى إليكم، الحِصَّة العُظمى من الذهب الأسود ومشتقاته، إذ آلَ إلى غير العرب الذين تمَّ الاستغاثة بهم، فاسْتـُقْدِموا لتحرير العرب مِن أنفُسِهم! - وكُلُّ شيء له ثمن - وليجثموا بالتالي على المقدَّرَات والصدور.. لحين تسديد الفواتير التي ستبقى مفتوحة، إذ كلَّما خبت النيران في موضعٍ أعادوا تأجيجها في غيرهِ، وهلمَّ جراً!
أنْعَى إليكم، مال أثرى أثرياء العَرب المُكدَّس في خزائن الغرب، فبدلاً مِن إنفاقه "لما فيه خيرٌ وأبقى" لأصحاب الحاجات والجياع والمرضى والمشردين والثكلى والأيتام والمتألمين، صار يُنفَق بسخاء لترفيه الحواس. فمِن صفقةٍ لتحرير عَشر – سنتمرات - فوق رُكَبِة غانيةٍ، إلى صفقةٍ للظَفَرِ برؤية صدرٍ مكتنزٍ مفخَّخٍ – بالسيلكون- إلى صفقة هزِّ خاصِرِ فنانةٍ تُجيدُ التناغي في جوف الليل!
أنْعَى إليكم، عِلم العلماء وبحوثهم وفِطنة المفكرين وخبراتِهم، الذين حُيِّدوا عن الساحة وعن المراكز التي يستحقون في بلدانهم، ليخلو الجو لأصحاب العراء الفكري والعلمي، مِن المحظيين والمغمورين، أو لِمن هُمُ كالمطاط مرونة!
أنْعَى إليكم، المؤتمرات واللقاءات التي عقدت بين الدول أو ضِمن حياضِ كلٍ منها، بغرض حلِّ مشاكل البطالة، ومكافحة آفة المخدرات، والمحافظة على البيئة، ورفع سوِّية التعليم، والقضاء على العنف داخل المجتمعات والجامعات، ومنح المرأة العربية حقوقها وصون كرامتِها، فقد تبخرت النتائج والتوصيات وذهبت أدراج الرياح، لتزداد المشكلات وتتفاقم وتستعصي عن الحل!
أنْعَى إليكم ،الأخلاق والقيم، والإنسانية التي خرجت مِمَن تنازلوا عن آدميتِهِم، فجعلوا يطعنون الحق والأبرياء بحراب الحِقد والضغينة، وأخذوا يزرعون الرعب في نفوس عباد الله الآمنين، ويُثيرون القلاقل والانقسامات في البلدان المستقرة، ويدكّون مداميك المنجزات والصروح والمباني لأجل عيون أعداء الأمة والمتربصين بها!
أنْعَى إليكم، أمْسِ الدابِرِ بذكرياته، وبطولاته، ورجالاته، وحوادثه، وأحداثه.
ويشُقُّ علي حال الأمَّةِ الآن؛ في زمن الأزْمة الحقيقة، زمن التيه وفقدان البوصلة.. زمن الحيرة والخوف.. زمن المواجع والكَمَدِ والعويل والعَبَرات.. زمن التنكُّرِ والشَّوكِ والإبَرِ.. زمن رشِّ الملح على الجروح.. الزمن المُر!
غير أنِّي أصَلِّي، يا ربّ البَريَّة.. رُحماك، ألا ثبِّت الحكمة في عقول البشر وأنِر سُبُلَهُم ونجِّ بقدرتك منطقتنا المُرهَقَة من أعدائها المنظورين وغير المنظورين!