من الرمثا إلى معان.. القصة الأردنية الحزينة ذاتها والجلاد الأمريكي عينه
د. عبدالحكيم الحسبان
جو 24 :
على مدى أيام عديدة كانت مدينة الرمثا الحدودية في عين الحدث، وكانت في القلب من المشهد الاردني الحزين الذي تتابع فصوله منذ سنوات ولتضيف مزيدا من الإحساس بفقدان الأمل ومن القلق في صدور الأردنيين على مستقبلهم، بل وعلى مستقبل وطنهم برمته. فصدور قرار حكومي يتعلق بعبور"كروز" سجاير للحدود لا بصاروخ عابر للقارات، كان كفيلا بتحويل مدينة الرمثا إلى ساحة للحرب، وإلى مسرح لمواجهات عنيفة بين جزء من الأردنيين في شمال البلاد وبين دولتهم. أجزم أن الصور والمشاهد تشي ببلوغ الأزمة في البلاد إلى مستويات حرجة لم يعد من الممكن معها الاستمرار في نفس السياسات ونفس أدوات الحكم والقيادة.
المتمعن في القرار الحكومي يدرك بسهولة انه لا يختلف عن كل القرارات الحكومية في كل القطاعات؛ في الاقتصاد كما في السياسة كما في البيئة، ويشبه كل إخوانه من القرارات الحكومية المتخذة منذ عقود والتي يطغى عليها "التكتيكي" بامتياز ويغيب عنها "الاستراتيجي" بامتياز. فالتكتيكي يطغى حين يعج المشهد بـ"الموظفين" أصحاب الياقات البيضاء، والاستراتيجي يولد حين تلد أرحام بعض النساء "رجال دولة" فيلدن بعض "القادة". وبالمناسبة، فثمة فارق كبير لا يدركه كثيرون بين منصب وزير المالية وبين "الدكنجي". صحيح أن كليهما يتعاملان بالمال، ولكن وزير المالية وهو يتعامل بالموضوع المالي ينبغي له أن يدرك العلاقة ما بين قراره المالي وبين مجمل القرارات والوقائع السياسية والامنية والاقتصادية والصحية والاخلاقية في البلاد، أما "الدكنجي" فهو يقرر وفي عقله وقلبه المال, ولا شي سوى المال. هيمنة "التكتيكي" في القرارات الحكومية وغياب "الاستراتيجي" لا يمثل حالة مؤقتة أو وضعا عارضا، بل يعكس خللا بنيويا كبيرا في عملية صناعة القرار وآليتها في الدولة الأردنية.
مشاهد العنف وتحدي سلطة الدولة، وهيمنة خطاب شعبوي يرى في الدولة وفساد رجالاتها وسياستها، سببا للبؤس وضنك العيش الذي يعيشه أهل الرمثا الشمالية، جعلني استحضر حالة اردنية مشابهة للحالة الرمثاوية وهي حالة مدينة معان الجنوبية. فمعان مثل الرمثا عاشت ظروفا مشابهة ووقائع مشابهة، وردود فعل من سكانها مشابهة، وكان الجلاد والمجرم الحقيقي هو نفسه، وإن كان المجرم في الحالتين يختبئ وراء ستارة، لان هناك من يجلس في موقع صناعة القرار لا يجرؤ أن يسميه، وربما لا يريد أن يسميه في حين تعجز الجماهير والحشود عن تشخيصه وتعريفه. والمقصود هنا هو السياسة الأمريكية التي هي في المحصلة النهائية سياسة ومشروع سياسي إسرائيلي بامتياز.
فقبل سبع سنوات ونيف كان القرار الأمريكي الإسرائيلي بتدمير الدولة السورية الذي كان سبقه بسنين محاولة سابقة في تدمير الدولة العراقية، وبعد أن فشلت محاولات تحويل العراق إلى منصة أمريكية لإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط برمته. وعلى مدى السبع سنين تم إغلاق الحدود الأردنية-السورية وحيث كانت معاناة أهلنا في الرمثا هي الأشد بالنظر إلى فقدانهم لمصدر رئيس لرزقهم يضاف إليه استقبالهم لعشرات الآلاف من اللاجئين السوريين.
وعلى مدى ثمان سنوات، هي عمر الازمة، كانت النتيجة كارثية إذ تقول الأرقام أن أكثر من ثلاثين ألف شخص فقدوا وظائفهم، وبلغت نسبة البطالة أكثر من اربعين بالمئة بين سكانها، وأغلق أكثر من 1300 تجاري ابوابها وفقد أكثر من 4000 تاجر من أصل خمسة ألاف جل أعمالهم في حين خسر مئات من أصحاب الشاحنات مصدر رزقهم. التدمير الأمريكي الإسرائيلي في سوريا وإغلاق الحدود بين البلدين أصاب الأردن في مقتل بنفس القدر الذي أصاب فيه الأشقاء في سوريا.
وكأن إقفال الحدود وحرمان أهلنا في الرمثا ومعهم الأردنيين من التجارة مع سوريا بفعل الحرب وسيطرة الجماعات الموالية في معظمها للكيان الصهيوني على الحدود لم تكن كافية، فما أن فتحت الحدود بين البلدين حتى قرر الفيل الأمريكي ممثلا بالملحق التجاري الأمريكي في السفارة الأمريكية في عمان أن ينزل للميدان وبصورة فظة هذه المرة وإصدار التعليمات بمنع التجارة البينية بين الأردن وسوريا والهدف المعلن هو محاصرة الدولة السورية في حين أن الهدف المضمر هو الإطاحة بالدولتين في سوريا وفي الأردن. العقوبات بمنع التجارة مع سوريا هي عقوبات للأردن بنفس القدر التي تعتبر به عقوبات على الشقيقة سوريا.
ما جرى في الرمثا جعلني استحضر ما جرى منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى اللحظة في مدينة معان جنوبي البلاد. ففي ثمانينيات القرن الماضي شهد أقصى جنوب المملكة ازدهارا اقتصاديا غير مسبوق بفعل الحرب العراقية- الايرانية التي جعلت من ميناء العقبة ميناء رئيسا لمعظم مستوردات الشعب العراقي. وباتت مدينتي العقبة ومعان تعجان بالنشاط الاقتصادي على هامش خط التجارة الأردني-العراقي، كما باتت الدورة الاقتصادية في مدينة معان تعتمد بشكل رئيس وفي مدينة العقبة بشكل اقل، باتت تعتمد على التجارة مع العراق.
بعد حوالي العشر سنوات من الازدهار والاستقرار المعيشي والسياسي والاجتماعي في جنوب المملكة كان القرار الأمريكي في بداية التسعينات بالحرب على العراق ومحاصرة ميناء العقبة تمهيدا وتوطئة لاتفاقية وادي عربة. وكما في الحالة السورية، كان القرار الأمريكي حينها هو حصار العراق ولكن واقع الحال كان يقول أن المستهدف هو الأردن الذي يطلب منه في كل مرة أن يدفع الإثمان للإسرائيلي. والحال، أنه ومنذ بدء الحصار الأمريكي على العراق إشتعل الوضع الاجتماعي والاقتصادي، واهتزت الأحوال الأمنية في معان، وباتت مدينة معان مركزا لصداع أمني لإخوتنا في الأجهزة الأمنية الأردنية.
في حالتي الرمثا ومعان، كما في حالة ذيبان كما في كل مكان يشتعل غضبا من ضنك العيش ومن الحرمان وبؤس الحال في الاردن، القصة هي ذاتها؛ سياسات "للصديق" الامريكي يستهدف ظاهرها جارا وأخا وقريبا، وقرارات حكومية تفتقر للرؤية الاستراتيجية ويغلب عليها التكتيك، ونتائج على الأرض يدفع ثمنها الأردنيون سلطة ودولة وشعبا، وثمارا يقطفها معتد وغاز صهيوني.
أمام الأرقام المفزعة عن المأساة التي أصابت أهل الرمثا والتي كان ينبغي على صانع القرار أن يمتلك الإحساس العاطفي بفداحتها لا مجرد أن يعرفها كأرقام صماء، كانت الحصافة تقتضي أن يتم التضحية ولو آنيا ببضع ملايين من الدنانير تخسرها الخزينة ولو كانت تذهب الى البعض بصورة غير مشروعه طالما أنها تخرج قطاعا مهما من الناس وفي حزام حدودي حساس وخطير على مثلث الحدود الاردنية -السورية -الفلسطينية من الازمة الاقتصادية. فالحصافة كانت تقتضي أن يتم التضحية ببضع ملايين كان يمكن أن تذهب للخزينة مقابل تكريس وتعزيز الامن الاجتماعي والسياسي في منطقة حدودية تعرضت لما يشبه الزلزال، وتحمل أهلها الكثير من ضنك العيش الذي لم يعرف عنه الأب الروحي والملهم لقانون "الكروز" سيء الصيت.
ربما كان الأجدر بالحكومة إن كانت ترغب بقرارات ذات مفاعيل إستراتيجية أن تناقش وتقرر كيفية مواجهة الحصار الأمريكي الإسرائيلي للأردن المتمثل في أحد أوجهه بإقفال السوقين العراقي والسوري أمام النشاط الاقتصادي الأردني، وربما كان الأجدر بأهلنا وشركاؤنا في الوطن من أهالي الرمثا وكي يكون مفعول احتجاجهم ذات أثر استراتيجي وغير مؤذ وطنيا أن يجري أمام بوابات سفارتي الكيان الصهيوني وسفارة العم سام.
ثمة مخطط قديم جديد صارت معالمه واضحة، فالمخطط الأمريكي الإسرائيلي تجاه الأردن يقوم على تجويع الأردنيين وحصارهم معيشيا بالتزامن مع شيطنة دولتهم من خلال اتهامها بالفساد بما يستدرج رد فعل شعبي من الأردنيين ضد دولتهم بحيث يتم الإطاحة بالسلطة الاردنية أو تسهيل ابتزازها في الحد الأدنى لتمرير مشاريع سياسية كبرى تتعلق بالمنطقة. فما جرى بالرمثا وقبله في معان وقبله في مادبا وذيبان كانت محصلته حتى الآن ربحا صافيا يسجل في رصيد الأمريكي والإسرائيلي، وخسارة صافية للدولة التي اجتمعت لتوقع قانون " الكروز"، كما لذلك الشعب الذي أراد أن يصرخ ضد التجويع فبدلا من ينتفض ضد جلاده الأمريكي الإسرائيلي، قام برجم أخوانه وشركائه في الوطن من أبناء الشرطة والدرك بالحجارة والنار.