نقابتنا عنوان كرامتنا
د. منتصر بركات الزعبي
جو 24 :
ما كان بوسعنا نحن العربَ التخلص من عادة الوأد الجاهلية ،التي حرّمها الإسلام ونهى عنها في القرآن والسنة ،وعدها خطيئة كبيرة، باعتبارها فعلا جرميا يأتي على النفس التي منحها الله سبحانه وتعالى حق الوجود والحياة، بكل ما يحمله هذا الحق من تبعات تلتصق بكينونة الإنسان ،منذ لحظة الولادة حتى الموت.
والوأد ليس بالضرورة أن يكون على طريقة الجاهليين، حفرة صغيرة لبنت صغيرة ليس لها ذنب ولا جريرة يهيل أبوها عليها التراب ويمضي دون أن يرف له جفن!
فلم تعد اليوم ممارسة هذه العادة بذات الأسلوب ولنفس السبب الذي كانت تمارس به جاهليا ،إلا أننا نرى تطبيقاً فعلياً لها واستبدالها من وأد للجسد بالتراب لوأد للكرامة بالتجاهل والإذلال ،لأن بفقدان الكرامة؛ ينهار بنيان الانسان ويفقد معنى وسر وجوده، ويصبح جسدا بلا روح، كصحراء قاحلة، لا تصلح لشيء، إلا لوأد ما تبقى من الروح، كما قال بدر شاكر السياب «إن فقد الإنسان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون؟»
من المؤسف حقا أن سياسة الوأد التي مورست ضد نقابة المعلمين ومجلسها المنتخب على اعتباره مولودا "غير شرعي"، وثمرة صعود الحراكات المجتمعية إبان الربيع العربي،هي عقيدة من نُصِّبُوا ولاة أمرعلينا كلٌ ضمن دائرة حكمه، ويعتبرونه واجباً خاضعاً لسلطتهم وقراراتهم، ومخالفتهم نتيجتها : الاعتقال ،أو إغلاقٌ لمقراتِهم ،أو العقوبتين معًا.
والعجيب أنهم يُلْبِسُونَ أنفسهم - شكلاً - قناعاً إنسانياً ،يتحدثون من خلاله عن حقوق الإنسان في خطبهم العامة ،ليكون مظهرهم أمام العالم جميلاً وحضارياً، بينما في الحقيقة ممارساتهم هي من تحكم أفعالهم!
نعم هكذا يمارس الوأد علينا في عصرنا الحديث!
والماغوط يعطينا صورة تلخص هذا الواقع عبر رائعته كاسك ياوطن في أكثر من مكان عبر نصه الجميل، وفي حواره على لسان بطل مسرحيته "غوار الطوشة"، وبعد سلوكه وافعاله المشينة مع زوجته وجيرانه وأصدقائه وبيعه لأبناءه، ومع السلطة الحاكمة والمستبدة ومعاقرة الخمر، يحدث ان يستفيق الضمير من بعيد، ذلك الضمير المتمثل بكرامة الشهداء وعظمة القضايا التي ناضلوا لاجلها، في تلك المحاورة الشهيرة بين الاب الشهيد والابن الفاقد لعقله والمتخم بجراحه والمترنح من سكره، يحدث بعد سيل الاكاذيب والصورة الوردية التي رواها الابن للاب عن اوضاع الانسان والاوطان، يحدث أن يسأل الاب ابنه، "إذًا لا ينقصكم شيء أبدا، عليكم أن تأتوا إلى عندنا؟! فيجيب الابن، الله وكيلك يا أبي مو ناقصنا غير شوية كرامة".
فيفهم الاب من تلك الكلمة(الكرامة) سريعا أن كل ما تحدث به الابن كان كذبا، لعلمه وهو صاحب الحكمة، أن الكرامة هي البنيان الاساس الذي يقوم عليه الانسان وتبنى عليه الاوطان.
بذهابها يموت الانسان داخل الانسان ويدخل مرحلة الاستعباد وتنهار الاوطان وتدخل مرحلة الاستبداد، ومن هذا الرحم جاءت صرخة "الموت ولا المذلة" صرخة لخصت نضال الإنسان طوال التاريخ ،في بحثه عن الحرية وعن الكرامة الإنسانية ،عبّر عنها سيدنا علي - رضي الله عنه – بمقولته الرائعة : [إنّ اللهّ أوكلّ لِبَنِي آدمَ كلَّ شيءٍ إلّا أنْ يُذلَّ نفسَه]
وأختم بكلمات سمعتها من جدي – رحمه الله - وبقيت أبد الدهر تجري على لسان أبية – رحمه الله - مضيفًا إليها: [ممكن الوطنية الصادقة ما بطعمي خبز؛ لكنها أكيد بتشبع كرامة]