حقل الألغام المصري
مع سقوط ورحيل نظام حسني مبارك أخذ التفاؤل بعودة مصر إلى حضنها العربي والإسلامي يتسلل شيئا فشيئا إلى نفوس أحرار وشرفاء هذه الأمة من خليجها إلى محيطها ، الغالبية هللت واستبشرت خيراً بحالة التغيير الأولية التي أنجبتها عملية الغليان الشعبي التي عاشتها مختلف المحافظات المصرية وميادينها والتي هبت كالإعصار حرصاً على مصروعلى إشعال فتيل ثورتها ، ومع إنجاز الخطوة الأولى التي تمثلت بخلع النظام المستبد قفز الترقب إلى أعلى درجاته ، وبدأت المتابعة الحثيثة لكل ما سيصدرعن مصر الثورة وعلى الصعيدين الداخلي والخارجي .
وفي لحظة من لحظات الزمن ذهبت مصر وغالبية شعبها الذي صنع هذا التغيير إلى صناديق الإقتراع فكان ما كان ، وجلس الرئيس المنتخب على كرسي رئاسة الجمهورية ، وهذا يعني أن ساعة العمل المرتقب والذي تتمناه نفوس أهل البلد الطيبين قد أزفت ودقت ، وبدأت العيون المملؤة بالأمل تتطلع إلى المستقبل القادم وما ستحمله رياح التغيير من عمل وإنجازات بالرغم من أن جميع الشوارع المؤدية إلى الميادين لم تغلق وظلت مفتوحة ، فجميع القوى الوطنية التي تتحمل مسوؤلية تمثيل جماهير هذا الشارع المصري كانت على علم ودراية بمقدار الجهد المطلوب بذله لتنظيف البلد من فساد وظلم وقذارة أكثر من ثلاثة عقود من الزمن الماضي .
انتهى العام الأول من هذا التغيير ، ولكن حسابات الحقول المصرية لم تنسجم مع ما قد تراكم على أرض بيادرها ، وهكذا وبسرعة شديدة وجدت جماهير الشعب المصري نفسها من جديد في الميادين ، وراحت تطالب مؤسسة الرئاسة المنتخبة والشرعية بالرحيل ، وهكذا عادت أزمة البلاد إلى مربعها الأول تحت تأثير الإنقسام الأفقي والعمودي الذي تجسد في هذه الميادين والذي انتهى إلى الوضع الراهن الذي تعيشه مصر في كل محافظاتها ومدنها وقراها ، وهكذا حلَ سريعاً ذلك التدخل الذي أقدمت على تنفيذه مؤسسة الجيش المصري وبكل ما رافق هذا التدخل من قرارات ، هذه القرارات التي فرح لها البعض وغضب منها البعض الآخر، الأمر الذي أدى إلى تعزيز وفرض حالة هذا الإنقسام الذي لا نعلم حتى اللحظة إلى أين سيقود البلاد .
التحليلات لا حصر لها ، والنوايا التي تختفي وراء ذلك كثيرة ومتداخلة ومتشعبة ، والعزف على مختلف الأوتار تفوق على كل التوقعات ، والوضع العام انتقل إلى مستوى من الخطورة التي أصبحت تتفوق بكثير على قضية الإصطفاف مع هذا الميدان أو ذاك ، فمصر برمتها تعاني وتتألم ، ولا أعتقد أن ميدان التحرير أو رابعة العدوية قادرعلى تحمل وإستيعاب وجع البلاد المطبق عليها ومن جهات المكان الأربعة ، لدرجة يمكن معها القول أيضا أن هذا الخلاف والتباين يدور أيضا حول البعد المكاني الخامس وهو السماء ، فهناك وعلى الأرض المصرية من يرفض هذا البعد ، بل إن هذا البعض وبإسم التزمت الأعمى والعنجهي لا يجد حرجا في الإعلان عن إستعداده لمواجهة ومحاربة أية تدخلات قد تكون السماء مصدرها .
مؤسسة الرئاسة المنتخبة والشرعية وضعت وللأسف الكثير من الملفات الحمراء والساخنة على الرف ، وذهبت نحوالكثير من العناوين الثانوية لحالة التغيير التي كانت الأغلبية الشعبية تنتظرها بعيون شاخصة إلى حصادها ونتائجها ، ومن هذه البوابة دخلت أطراف عديدة داخلية وخارجية وراحت تمارس فعل التخريب وبأقصى ما لديها من طاقة وإمكانيات ، فالمهم عند هذه الفئة ورموزها يكمن في أن تظل النار مشتعلة في أغلب الحقول المصرية ، فكان لها ما أرادت ما دامت لم تجد من يضرب على أيديها وأرجلها ومنذ اليوم الأول ! .
عدم الإستقرار ، والقلاقل ، وعلى الصعيد الداخلي خصوصا كانت هي المسيطرة على صورة المشهد المصري ، وبالمقابل ظلت مؤسسة الرئاسة منشدة إلى فروع المشاكل تاركة للجذور الرئيسية حرية التمدد والغوص عميقا في الأرض المصرية ، فالسفارة الصهيونية ظلت من المحرمات التي لم يتم الإقتراب منها بالرغم من أن الجماهير هجمت عليها وأحرقت كل محتوياتها ، وإتفاقية الذل والعار المسماة " كامب ديفيد " التي قيدت وكبلت سياسات مصر ظلت على حالها ، والحصار على أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة ظل على حال سبيله ، حتى وقع عنوان فك الحصارالكبير والظالم الذي فرضه النظام السابق في الفخ الصغير الذي تجسد في ملف علاقة النظام الجديد بحركة حماس ، وهذا انتهى وللأسف إلى مراكمة المزيد من السلبيات والظلم والتعسف الذي أوجده النظام السابق الذي انهار ورحل .
قريبا جدا ستدرك مؤسسة الجيش وكل من وقف إلى جانبها خطورة وفداحة ما أقدمت على إتخاذه من خطوات ، ولا نقول ذلك دفاعا عن حركة الإخوان وحزبها ورئيسها الذي فاز عبر صناديق الإقتراع فهم المخولين بالدفاع عن سياساتهم ومواقفهم ، بل نقول ذلك دفاعا عن كل المكونات الوطنية للخريطة المصرية ، ومن هنا نرجو من الفرحين لوصول المليارات الخليجية أن لا يذهبوا بعيدا في فرحهم ، فهذه المليارات فيها من الخطورة ما قد يصعب وصفه الآن وبالمقارنة مع إستحقاقات ومتطلبات المستقبل القادم ، فالهبات المجانية لم يعد لها اليوم مكان في خريطة العلاقات بين الدول ، وعليه فإن وراء هذا الفتات الخليجي من المخاطروالتآمر ما قد يجعل الشعب المصري يندم و يبكي دما في قادم الأيام .
الحل برأينا يكمن في عودة الرئيس إلى كرسي الرئاسة ، وتراجع الجيش عن الخطوة التي أقدم على تنفيذها ، ونصب مائدة الدائرة المستديرة التي يجب أن يجلس عليها كل عقلاء مصر لوضع خريطة الطريق الجديدة التي ستحفظ لمصر مستقبلها القادم ، وبما ينقذها من حقل الألغام الذي دخلت إليه بمحض إرادتها ، هذا هو المطلوب الآن وعاجلاً للخروج من أزمة الميادين التي إن ظلت قائمة فالبلاد كلها وبكامل نسيجها السياسي والوطني ستذهب حتما إلى ما قد لا يحمد عقباه ، مصر بحاجة إلى طاقة تفوق ما هو موجود عند الإخوان والمعارضة الوطنية ، وهذه مسؤولية عقلائها الذين يتغنون ليلاً ونهاراً بحبهم لمصر ، ولقداسة الإنتماء إلى نيلها الذي لا شك في أنه حزين جداً لما يجري على أرضها !.