شرعية الصندوق والشرعية الشعبية في مصر
أ. د. محمد الحموري
جو 24 : لقد تأخرتُ في نشر هذه الدراسة، لظروفٍ ومعطياتٍ واقعية، كنت أعتقد أن محصلتها قد تكون أكثر جدوى من النشر، لكن المستجدات فرضت نفسها، وأصبح لا بد من نشرها مبدياً رأيي وذلك على النحو التالي:
أولاً: الأساس النظري:
1. أصبح من المسلم به في الفكر الدستوري والسياسي السائد، أن الشعب هو مصدر السلطة. وإذا كان هذا المبدأ قد طرحه ابتداءً فلاسفة العقد الاجتماعي، فإن من الأهمية بمكان أن نذكر، أن الشعب الإنجليزي قد استخلص من هذا المبدأ، حقه في الثورة على الملك جيمس الثاني عام 1688، التي أصبحت تعرف باسم الثورة العظيمة (Glorious Revolution)، وتم بموجبها عزل الملك، وتدوين مبدأ الشعب مصدر السلطة في بريطانيا لأول مرة، في وثيقة رسمية، هي وثيقة الحقوق الدستورية (Bill of Rights) عام 1689، التي وقعها وليم أورانج الهولندي، ليصبح ملكاً على بريطانيا، في مقابل توقيعه على وثيقة الحقوق المذكورة، لكونه زوج ابنة الملك جيمس الثاني الذي خلعته الثورة. وكان أول تعميد متكامل للمبدأ السابق على الواقع، في عهد جورج الثالث (دام حكمه من عام 1760 – 1820)، عندما تم الفصل بين المُلك والسلطة، بحيث تكون ممارسة الحكم من قبل حزب الأغلبية، باعتبار وجود الأحزاب وتناوبها على السلطة تبعاً لثقة الشعب بها، هو الوسيلة لتحقيق المبدأ، ومن ثم ليصبح ذلك أساساً في دساتير أنظمة الحكم البرلماني في أوروبا، التي يطلق عليها الملكيات الدستورية. وبدءاً من الدستور الأميركي الذي تم إقراره عام 1787 ليبدأ سريانه من عام 1789، أصبحت تأخذ بمبدأ الشعب مصدر السلطة دساتير النظام الرئاسي.
2. وحيث أن تطبيق مبدأ الشعب مصدر السلطة، وسيلته المتاحة هي قيام الشعب بانتخاب من يحكمه، والنص على ذلك في الدساتير، فقد خشي العقل الدستوري مبكراً، من انحراف صاحب السلطة الذي أفرزه صندوق الانتخاب، وطرح التساؤل: هل ينبغي السكوت على انحراف من بيده السلطة حتى نهاية مدته الدستورية، فيتعاظم الضرر الذي يلحق بالمجتمع ومصلحته العامة، أم أنه يصبح من الضروري وضع حد للانحراف قبل تفاقمه، وفي هذه الحالة، ما هي الوسيلة لتحقيق ذلك.
3. في تلك الفترة المبكرة من حياة النظم الدستورية التي تطورت الى ما نعرفه عنها في الوقت الحاضر، لم تكن فكرة الاستفتاء لمعرفة توجهات الشعب قد عمدت بعد، ومن ثم أجاب واضعو ميثاق الاستقلال الأميركي الذي انبنى على أساسه دستور أميركا لعام 1787، وبدأ سريانه عام 1789، بنص في الميثاق يؤكد، أنه إذا انحرفت سلطة الحكم وأصبحت ممارساتها ضارة بمصالح الشعب وتطلعاته، يكون من حق هذا الشعب وواجبه خلعها وتنصيب غيرها مكانها.
وبكلمات النص الأميركي:
“… it is their right, it is their duty, to throw off such government, and to provide new guards for their future security”.
4. وقد أخذ بالمبدأ الوارد في الميثاق الأميركي على النحو السابق، إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي عام 1789 (Declaration of the Rights of Man and Citizen) الذي صاغته الثورة الفرنسية، وظهرت قيمته في مقدمة preamble عدد من الدساتير الفرنسية، حتى ترسخ المبدأ في وجدان الفكر السياسي الفرنسي والأوروبي.
5. والسؤال هنا، هل لا تزال الثورة في وقتنا الحاضر، هي وسيلة الشعب في إزاحة السلطة المنحرفة عن الحكم، وإحلال غيرها مكانها؟
ثانياً: الجواب من سابقة فرنسا وديغول المشابهة لحالة مصر ومرسي:
إن هذا السؤال، أجاب عليه الشعب الفرنسي عام 1969، وأيد هذا الجواب الرئيس شارل ديغول عظيم عظماء فرنسا، في سابقة حفرت حضورها في الفكر السياسي والدستوري، وذلك وفقاً لما يلي:
1. ففي ذلك العام، أي 1969، قرر الجنرال الرئيس ديغول وحكومته إجراء إصلاحات دستورية وجدها مهمة لفرنسا، وأن يتم استفتاء الشعب الفرنسي عليها، في ظل ظروف كانت فيها مظاهرات الشعب الفرنسي ضد نهج ديغول في الحكم على أشدها. فقد كانت المظاهرات قد اندلعت في كلية الآداب في ناتير، وكان رد السلطة حاسماً بإغلاق الكلية. واحتجاجاً على هذا الإغلاق، امتدت المظاهرات الى جامعة السوربون والحي اللاتيني وغير ذلك من المناطق، فواجهتها شرطة ديغول بإجراءات حازمة، الأمر الذي جعل باريس تشهد أكبر المظاهرات التي تهتف ضد ديغول وحكومته. وامتدت المظاهرات بعد ذلك الى المصانع والمؤسسات المختلفة، تؤيدها أحزاب اليسار والوسط، وعلى نحو وقفت فيه فرنسا مشلولة أمام ما حدث. فقد أخذ العمال بالمطالبة برفع الأجور وتخفيض ساعات العمل، وضرورة الحصول على حقوق نقابية في المشروعات التي يعملون فيها. وترتب على ما حدث، انخفاض الدخل القومي بنسبة (4 %)، واستتبع ذلك المضاربة على الفرنك الفرنسي الذي أخذ سعره في التدهور، وأخذ علماء المال والاقتصاد ينادون بضرورة تخفيض قيمة العملة الفرنسية .... الخ.
2. وهكذا وجد ديغول نفسه أمام ثورة شعبية هزت الثقة في وجوده، إن لم تسحبها منه، وأمام اقتصاد يوشك على الانهيار، وعملة أخذت قيمتها السوقية بالتآكل، فماذا يفعل، هل يستقيل، رغم أن مدة رئاسته تنتهي عام 1972؟
وهذا الحال الذي واجهه ديغول، هو ذات الحال الذي واجهه الدكتور محمد مرسي مع شعبه، خلال النصف الأول من عام 2013، ووصل الأمر إلى ذورته في الفترة من 30 حزيران (يونيو) حتى 2 تموز (يوليو).
3. لم يتردد الجنرال ديغول، ويتجاهل عمق المبدأ الديمقراطي الذي يسكن في وجدان الشعب الفرنسي، ومن ثم يستند الى صندوق الانتخاب الذي أعطاه الحق الدستوري برئاسة فرنسا حتى كانون الأول (ديسمبر) عام 1972. فخلال حمأة المظاهرات والاحتجاجات والإضرابات، اختفى الجنرال، دون أن يعرف رئيس وزرائه جورج بومبيدو أو أي من أعضاء حكومته، أين اختفى الجنرال وماذا حدث، في حين كانت فرنسا على شفا ثورة عارمة أو حرب أهلية. وبعد يومين ظهر الجنرال، وتبين أنه سافر سراً إلى بادن بادن في ألمانيا، للاجتماع مع الجنرال ماسو (Massu) قائد الجيش الفرنسي الموجود هناك، كما تبين أن سبب السفر كان لسؤال قائد الجيش، هل لا يزال الجيش يثق به كرئيس للجمهورية؟ وكان تقدير السياسيين الفرنسيين أنه لو كان الجواب بالنفي، لقدم الجنرال استقالته، لكن الأمر كان خلاف ذلك، إذ عندما وجد الجواب بالإيجاب، عاد الجنرال فرحاً، ليستكمل التعرف على ما إذا كانت أغلبية الشعب لا زالت تثق به وبنهج حكمه أم لا، وذلك من خلال قيامه بطرح تعديلاته الدستورية للاستفتاء على الشعب الفرنسي.
4. بتاريخ 25/4/1969، نشرت صحيفة الفيغارو الفرنسية نتيجة الاستطلاع الذي قامت به مؤسسة S.O.F.R.E.S. يومي 21 و 22 نيسان، بأن الذين سيعارضون الجنرال
(53 %) من المقترعين على الاستفتاء، لكن الجنرال، رد على ذلك برسالة وجهها للشعب الفرنسي عندما صرح في ذات يوم 25 المذكور، بأنه إذا لم يوافق الشعب بأغلبية على الاستفتاء، فسوف يستقيل فوراً. وقد انطلق في ذلك من أن نتيجة الاستفتاء تعني عنده مدى ثقة الشعب به، ومن ثم قام بطرح التعديلات للاستفتاء. وفي مساء يوم 27/4/1969، أعلنت نتيجة الاستفتاء، فكان المعارضون للتعديلات 52.87 % والمؤيدون لها 47.13 %. وبالرغم من أن الاستفتاء لم يكن حول شرعة الوجود الدستوري لديغول في الحكم واستمراره فيه، وإنما كان حول تعديل بعض المواد في الدستور، إلا أن هذا القائد التاريخي لفرنسا الحرة ومحررها من الحكم النازي، اعتبر ذلك إشارة الى أن الثقة الشعبية فيه قد انحدرت عما ينبغي أن تكون، وأنه ما دام أن الشعب هو مصدر السلطة، وهو الذي يعطي الثقة لرئيس دولته، فإنه لا يقبل أن يظل رئيساً بعد اهتزاز ثقة الشعب به. وفي الساعة 11 من مساء يوم 27/4/1969، استقال زعيم فرنسا ومؤسس جمهوريتها الخامسة، وترجل فارس فرنسا بعد (11) سنة في الحكم، لتسري استقالته بدءاً من الساعة (12) من ظهر اليوم التالي 28/4/1969.
المحصلة لما سبق
يؤكد ما أسلفنا، أن شرعية الصندوق التي يجسدها الانتخاب من الناحية الدستورية، يمكن أن يقف في وجهها شرعية شعبية احتجاجية أو ثورية، وفي الحالين، فإن كل واحدة من الشرعيتين، بمقدورها أن تستند الى مبدأ الشعب مصدر السلطة. وهنا يفرض الواقع نفسه: فإن تنحّت السلطة القائمة، استشعاراً منها باهتزاز شرعيتها أو اضمحلالها أو فقدانها، نكون أمام انتقال سلمي للسلطة وفقاً للشرعية الدستورية القائمة، وتستأنف السلطة الجديدة مسار الحكم وفقاً للأحكام الدستورية الموجودة، كما حدث في حالة الجنرال ديغول. أما إن رفضت السلطة القائمة التنحي، وقاومت الاحتجاج أو الثورة، فإننا نكون أمام احتمالين:
الاحتمال الأول: أن تنتصر السلطة القائمة على الحالة الاحتجاجية أو الثورية، فتعتقل وتسجن وتبطش من خلال الشرطة والجيش وأجهزتها الأمنية. وهنا فإن سلطة الحكم القائم سوف تعتبر القائمين على الحالة المذكورة من محتجين أو ثوار، أنهم خارجون على الشرعية الدستورية والقانونية القائمة التي تجسد الشعب كمصدر للسلطة، وتحاسبهم على هذا الأساس.
الاحتمال الثاني: أن ينجح المحتجون أو الثائرون ويسيطروا على الحكم، وفي هذه الحالة يتم تجميد أو إسقاط الدستور الذي كانت تستمد السلطة المهزومة شرعيتها منه، وتحل مكان تلك الشرعية، شرعية ثورية، تستند واقعياً الى مبدأ الشعب مصدر السلطة أيضاً، وتستطيع السلطة الجديدة هنا إن أرادت، أن تستدعي، نظرياً، المبدأ السابق الضارب في أعماق الفكر السياسي والدستوري وهو، أن من حق الشعب الثورة على سلطة الحكم التي انحرفت عن مصالح الشعب. وهذه الشرعية الثورية، معروفة ومألوفة في الفكر السياسي والدستوري. وعند هذه المحصلة، يصبح غير مجدٍ صوت السلطة السابقة، إن تسترت بثوب شرعية الصندوق من أجل العودة للحكم، وتجاهل ما كان قائماً ويحتاج الى حسم، لخطورة استمراره على الوطن والمجتمع. وهذا الأمر يدخل تحت المبدأ الذي أشار إليه شيخ الجامع الأزهر عندما قال: "دفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر
ثالثاً: تطبيق ما سبق
على الواقع المصري:
1. ليس هناك من شك بأن الدكتور محمد مرسي الرئيس المنتخب لمصر، قد ارتكب، كما اعترف الرجل نفسه في خطبه الأخيرة، أخطاء خلال السنة التي أمضاها في الحكم. ورغم الاختلاف بين المعارضين والمؤيدين له، حول نوع هذه الأخطاء وحجمها ومداها، إلا أنه من المسلّم به واقعياً، أن حملة تمرد التي قام عليها خريجو الجامعات من الشباب، واستقطبوا للعمل معهم زملاءهم في جميع محافظات مصر، قد تمكنوا من حشد ملايين التوقيعات المطالبة بالاستفتاء على استمرار الرئيس في الحكم، أو بانتخابات رئاسية مبكرة، بعد أن وجهوا اتهامات له، بأنه جعل حزبه يسيطر على مسار الدولة، فتدهور الاقتصاد وساءت الأحوال، وغدا صوت الأحزاب والقوى السياسية الأخرى، هكذا يقولون، فاقد القيمة والجدوى. ورغم التشكيك من قبل مؤيدي مرسي بهذه الاتهامات، وبأن التوقيعات لم تبلغ (22 مليون) توقيع، كما أعلن القائمون على حملة تمرد، إلا أن القائمين على الحملة تمكنوا بغير شك، من حشد ملايين المصريين في ميادين مصر وشوارعها، لتردد من الناحية الواقعية تلك الاتهامات ضد الرئيس محمد مرسي، ومثل هذا يشكل بالحتم، أمراً لا يجوز تجاهله، ويحتاج من القائم على السلطة إلى علاج.
2. وفي هذا الصدد، فإن مقدار العدد للمحتجين أو الثائرين، له عند بعض من تصدى للموضوع أثره الواقعي على وصف ما حدث في مصر، خلال الفترة من 30 حزيران (يونيو) حتى 3 تموز (يوليو). وفي الوقت الذي تشير فيه المعلومات المنشورة إلى أن العدد يقدر بالملايين، إلا أنها تختلف في عدد هذه الملايين. وبالرغم من أن الإخوان المسلمين والجماعات المؤيدة لهم وللرئيس محمد مرسي، يشككون في تلك الأرقام، فإن الرقم الذي ذكره السيد توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا السابق لعشر سنوات والمبعوث الدولي للشرق الأوسط، وهو (17 مليون) مصري، كان الأكثر تردداً، حتى أنه تم وصفه بأنه أكثر تجمع بشري ضد سلطة حكم، عرفته البشرية حتى الآن. وفي مقابل ذلك، فقد حشد الإخوان المسلمون والمؤيدون للدكتور محمد مرسي، أعداداً كبيرة تنادي بضرورة الالتزام بالشرعية الدستورية، وعدم الخروج على الديمقراطية التي قامت ثورة 25 يناير من أجلها، وبالتالي عدم الخروج على الشرعية الديمقراطية لمن جاءت به صناديق انتخاب الرئيس. وفي هذا المجال، فقد حاولت جاهداً أن أصل إلى رقم تقديري للأعداد المحتشدة تأييداً للدكتور محمد مرسي، فلم أجد فيما هو متداول في وسائل الإعلام، سوى التأكيد بأن الأعداد المعارضة في احتشادها أكبر بكثير من تلك المؤيدة.
3. ورغم أن رقم الـ (17 مليون) يظل جدلياً ولا يحسم أمراً، فإن البعض يستخدم هذا الرقم، للإشارة إلى عدد الأصوات المتعلقة بانتخابات الرئاسة المصرية التي فاز فيها الدكتور محمد مرسي، من حيث أنه بلغ عدد المشاركين في الانتخاب حوالي (26 مليوناً)، حصل محمد مرسي منها حوالي (13.5 مليون)، وحصل خصمه أحمد شفيق على حوالي (12.5 مليون) صوت. وبمعزل عن حديث الأرقام الذي يظل مرسلاً، فإنه من الناحية الدستورية ليس هناك من شك، بأن الدكتور محمد مرسي أصبح رئيساً لمصر بموجب الأغلبية التي حصل عليها في صندوق الانتخاب. وهنا ينبغي أن نؤكد أن الرئيس مرسي جاء على أعقاب حكم دام ثلاثين سنة، وأدانه الشعب قبل القانون بالفساد والإفساد، الأمر الذي أدى إلى أنه بعد سنة واحدة من حكم مرسي، ظهرت آثار التركة التي ورثها الرجل من عهد حسني مبارك، وما ساهم فيه عدم استقرار الأوضاع التي جاءت على أعقاب الثورة، وذك من حيث تردي الواقع الاقتصادي والمالي، وانخفاض قيمة العملة، والعجوزات المالية، وانخفاض حجم الاحتياطيات في البنك المركزي ... الخ. وهكذا فقد استخدمت هذه الأوضاع وغيرها، من قبل القوى السياسية والمجتمعية، كأسباب لخروج الملايين التي وجهت للرئيس مرسي اتهامات تهز الثقة فيه أو تسحبها منه، مطالبة باستفتاء على بقائه في السلطة أو إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، مما شكل حالة واقعية تحتاج إلى حسم. لكن الرئيس لم يوافق على إجراء الاستفتاء المطلوب أو الانتخابات الرئاسية المبكرة، مستنداً في ذلك إلى الشرعية الدستورية والديمقراطية، لصندوق الانتخاب، وقدم في آخر خطاب له، اقتراحات لم تكن مقبولة من الجماهير المعارضة، الأمر الذي يعني بالضرورة، أن استمرار هذه الملايين الثائرة في ميادين مصر وشوارعها، يشكل خطراً حقيقياً على الأمن الوطني المصري. وفي تقديري، فإن الذي قاد إلى هذه الحالة الواقعية، هو عدم تجذر المفهوم الديمقراطي كأسلوب حكم ونهج حياة، في الواقع المعاش، سواء في مصر أو في مجتمعات الوطن العربي ودوله، حيث طال حكم الفرد الأوحد، رغم أن العلماء في مصر والوطن العربي، بمقدورهم تعليم النظرية الديمقراطية من حيث الفكر، لأبناء أوروبا. وليس بكافٍ أن يمضي عام أو أكثر على السلطات التي جاء بها الربيع العربي بانتخاب ديمقراطي، حتى يغير في أعماق الحاكم والمحكوم، ما تعايشوا معه من نهج سلطة انفردت بالحكم لأمدٍ دام لعقود، وثقافة انفراد السلطان بالحكم في دولة الخلاف قبلها، الذي استمر على مدى قرون. ومما زاد في تفاقم الحال على واقع مصر، أن الجماهير التي خرجت بالملايين، لا زالت تعيش الأسلوب الذي عُزل بمقتضاه حسني مبارك في ثورة 25 يناير، من خلال احتشادها في الميادين، بعد كسر حاجز الخوف، رغم الاختلاف في التكوين الشخصي للرئيسين مرسي ومبارك، وذلك استمراراً لقناعةٍ لدى المحتجين ترسخت لديهم منذ 25 يناير، بأن أسبابهم تعطيهم حق الثورة على حاكمهم. وهكذا، فلم يكن أمام الرئيس مرسي لحسم الحال الخطر الموجود على الأرض، سوى الإستجابة لطلب الملايين المحتشدة، أو الاستقالة، أو أن يأمر الجيش والشرطة بتفريق المحتشدين وإعادة الحياة إلى مجراها، وفي جميع هذه الحالات، سيكون قرار الرئيس مستنداً إلى شرعية دستورية.
4. لكن الذي حدث، أن انحياز الجيش لمطالب الملايين المحتشدة، فرض حالة واقعية مستجدة. فالجيش، وهو العمود الفقري لحماية الأمن الوطني المصري، أعلن أنه استشعر خطراً محدقاً بالوطن، ونبّه الرئيس لخطورة الوضع، ومدى احتمالية تداعيه إن لم يستجب هذا الرئيس لطلب الجماهير. وفوق ذلك، فقد أصبح واضحاً للرئيس أن قوات الجيش والشرطة والقضاء والإعلام، تناصر المعارضين، وليست معه في عدم تقديمه للحل الذي يعيد الملايين المحتشدة الى بيوتها. ومع رفض الرئيس مرسي الاستجابة لتحذير الجيش وعدم الموافقة على ما يطالبونه به، كخطوة لتهدئة تلك الملايين، انضم هذا الجيش الى ثوار 30 يونيو، كما سبق أن انضم الى ثوار 25 يناير عام 2011، وفي الحالين تم تعطيل العمل بالدستور، وعزل رئيس الجمهوية. لم يكن الذي حدث في 30 يونيو من صنع الجيش ابتداءً، وإنما كان من صنع الشعب، أو قطاع واسع من الشعب، تماماً مثل ما حدث في 25 يناير، وكما حصل في الثورات الشعبية التي حدثت في التاريخ. وترتب على هذا الذي حدث، الإنهاء الواقعي للشرعية الدستورية وشرعية الصندوق، وحلول شرعية أخرى مكانها. ليس من المجدي في تحديد وصف انحياز الجيش، الاتفاق أو الاختلاف حول سلامة ما قام به، ولكن المجدي هنا، هو أن المطالب التي عملت حركة تمرد على مدى شهور من الزمن لحشد الملايين لكي تتبناها، هي ذاتها التي رددها الجيش عند انحيازه، وبالتالي، فإنه من غير الممكن أن يُسمى ما حدث انقلاباً، لأن الأمر لم يكن سراً أو مفاجئاً، وإنما كان حالة شعبية موجودة على أرض الواقع ومعروفة المطالب، ومن ثم فإن وصف الانقلاب لا ينطبق على الحالة التي أوجدتها أساساً، الملايين التي خرجت يوم 30 يونيو، لأن هذا الوصف يفرغ أسباب خروجها ودوافعه من مضمونها. ويلغي مدلولات هذا الخروج وينكر وجود واقع قائم. ويقطع بهذه الصفة الثورية، الملايين التي خرجت يوم الجمعة 26 يوليو/تموز، استجابة طوعية منها لطلب قائد الجيش ووزير الدفاع عبد الفتاح السيسي، باتفاق مع رئيس الجمهوية المؤقت والحكومة، كما تم إعلانه، بهدف أن يكون ذلك استفتاءً واقعياً على الطبيعة الثورية لانحياز الجيش لمطالب الملايين المحتشدة، وللتغيير الذي حدث في مصر. وفي ظني، ليس من المعقول أن نتهم آلاف الشباب الذين خططوا ونفذوا مسار حركة تمرد، بأنهم جزءاً من مؤامرة أمريكية أو غربية، ذلك أن هؤلاء الشباب، لم يكونوا قيادات أو وجوهاً سياسية معروفة من أحد، ولا كانوا تابعين لأي حزب أو فصيل سياسي في مصر، كما أنه لا شأن لهم بجبهة الانقاذ الوطني التي شكلتها التيارات السياسية. وهكذا أدى انحياز الجيش لحشود حركة تمرد، إلى خلق واقع جديد، لا ينفع معه ولا يجدي، الاتهام بالخروج على شرعية الصندوق. وبالطبع فإن مثل هذا الانحياز، لا بد وأن يصاحبه احتمالية وقوع بعض الضحايا بحجة ضبط الأمن، لكن هذا لا يجوز أن يعفي من إحالة من تجاوز حدوده في أي إيذاء أو قتل إلى القضاء، ليقول كلمته فيه.
5. إن الفكر السياسي لم يكتشف بعد وسيلة للتعامل مع الرئيس الذي جاء به صندوق الانتخاب عند خروج الملايين من شعبه عليه، سوى تنحيه، أو الاستفتاء على بقائه، أو عزله عند رفض إجراء الاستفتاء، وهذه هي الخيارات التي كانت متاحة للجنرال ديغول. والعزل إما أن يكون دموياً عن طريق اندفاع الجماهير الثائرة إلى العنف ضد الرئيس، وإما سلمياً عن طريق انحياز الجيش الى الجماهير، مع احتمالية وقوع ضحايا كما أسلفنا، وذلك باعتبار الجيش أداة مؤسسية حمائية الدور والواجب. ومن ثم إيصال الأمور الى شاطئ الأمان ليحكم الشعب نفسه. وهذا ما حدث في مصر.
6. ليس من مصلحة مصر ولا مصلحة الإخوان المسلمين ومن يناصرهم من التيارات، الاستمرار في الاحتجاج والاعتصام، والتهديد بأنهم سوف يستمرون في اعتصامهم واحتجاجهم الى حين عودة الدكتور مرسي الى الحكم، إذ مثل هذا المطلب أصبح يقف في وجهه الجماهير التي خرجت، ومعها الجيش وقوات الأمن العام، إضافة الى القضاء والإعلام ومؤسسة الأزهر ومؤسسة الكنيسة، والعديد من الأحزاب والقيادات السياسية والتيارات المدنية، وغدا الإصرار على مطلب عودة ما كان الى ما كان، مستحيل التحقق، وذلك لاستحالة تراجع من خرجوا، ومن قام باحتضانهم على النحو المذكور. ومما يعزز هذه الاستحالة، بمنطق المكنون الشخصي والنفسي غير المعلن، أن هذا التراجع يعني من الناحية القانونية البحتة، إعادة خضوع الجميع، قادة تمرد بملايينها ومعها قادة الجيش وكل من ناصر وأيد وشارك، للشرعية الدستورية التي كانت قائمة، وقوانينها العقابية، وهو أمر ترفضه الطبيعة البشرية التي تنتصر للذات تلقائياً، كما لم يسبق أن حدث في ثورات جسدت لها سلطات على أرض الواقع.
7. إن الحق في الشرعية الدستورية أو في شرعية الصندوق، يفقد قيمته وأثره الواقعي، إن تجرد من الحماية القانونية المفروضة عنوة عند الحاجة، إذ الحق في الفكر القانوني، هو مُكنة أو سلطة لإرادة واعية يحميها القانون عن طريق الفرض بالقوة عند الاقتضاء. فإذا كانت أدوات الفرض في النهاية، وهي قوات الجيش والشرطة، التي لها صلاحيات الفرض والقدرة عليه، قد رجحت الانحياز للملايين المحتشدة في ميادين مصر، انطلاقاً من أن هذه الملايين هي صاحبة الحق الأصيل في الشرعية، فهذه هي الشرعية الثورية لا محالة، التي يصبح بعدها الحق المستمد من الصندوق فاقداً لقيمته وأثره، من الناحية الواقعية، وذلك لحلول حق لسلطة جديدة مستمد من الشرعية الثورية مكانه. ومثل هذه الشرعية الثورية من الناحية النظرية المجردة، كان قد استخدمها المجلس العسكري في أعقاب ثورة 25 يناير، وأصدر بموجبها إعلانات دستورية، كما استخدمها الرئيس محمد مرسي في أول عهده، وأصدر إعلانات دستورية لا سند لها سوى الشرعية الثورية رغم أنه رئيس منتخب. وانطلاقاً من هذه الشرعية الثورية، أصدر الرئيس المؤقت عدلي منصور، إعلاناً دستورياً تم بموجبه تشكيل الحكومة، وفقاً لخريطة طريق أُعلن أن هدفها هو بناء المؤسسات الدستورية المطلوبة للدولة. وأعتقد أن الحالة المصرية التي أفرزتها الثورة المستجدة، سوف تضيف جديداً يقاس عليه، إلى الفكر السياسي والدستوري في العالم، يكون سابقة موازية وبشكل متقدم، على سابقة الحالة التي أفرزتها ثورة الشعب الفرنسي ضد الجنرال ديغول. ولذلك، فإن أية مقاومة للشرعية الجديدة في مصر، سوف تكون خروجاً على سلطة فعلية بموجب ثورة تعمد دستورها، وستكون مقاومة بغير جدوى، وسوف يترتب عليها المزيد من الدماء، واحتمالية التأثير السلبي على شعبية الإخوان المسلمين ومناصريهم.
8. لكنه في هذا المجال، ينبغي إبداء ملاحظة قانونية ضرورية وهي، أن الدكتور محمد مرسي، كان قد تم اعتقاله أثناء احتجاجات ومظاهرات ثورة 25 يناير 2011، وبسببها تم إيداعه في سجن وادي النطرون في اليوم الرابع للثورة، أي 28 يناير، من قبل سلطات حكم الرئيس مبارك. وحيث أن الفعل المنسوب للدكتور مرسي وشاركه فيه ملايين المصريين خلال فترة الثورة، أسقط الحكم المذكور، وبالنظر الى اعتبار أن تلك الملايين، كانت قد مارست حقاً شرعياً ثورياً يحصنها من الاتهام بالتظاهر والخروج على نظام الرئيس مبارك القائم حينها، وأن ما قامت به أصبح من المباحات، فإن ذلك ينطبق على الدكتور محمد مرسي حتماً، وبالتالي فإن حبس الدكتور مرسي لم يكن سليماً بموجب الشرعية الثورية، وكان من حقه أن يظل طليقاً، أسوة بغيره من الملايين، ومن ثم يكون مجرد مغادرته لسجن تم حبسه فيه لسبب جعلته الثورة مشروعاً، مشروعاً أيضاً. وبغير هذا، فإن الملايين التي شاركت مع محمد مرسي في الاحتجاجات والمظاهرات، كان ينبغي حبسها أسوة به، وهو أمر يعدم جدوى الثورة ومفاعيلها، ويدخلنا في عالم اللامعقول!!
9. ومن حيث القانون الدولي في هذا الصدد، فإن الذي يجسد إرادة الدولة المصرية أمام العالم الآن، هو من بيده السلطة الموجودة على أرض الواقع، أي رئيس الجمهورية المؤقت والحكومة التي أصدر الرئيس قراراً بتشكيلها.
10. أمام ما سبق، فإني مخلصاً، أنصح الإخوان المسلمين في مصر، ومعهم جماعات التيار الديني، ومن يناصر الدكتور محمد مرسي، إنهاء اعتصاماتهم والعودة لمنازلهم، والمشاركة في الخطوات اللاحقة لإعادة بناء المؤسسات الدستورية، والدخول في الانتخابات الرئاسية والنيابية، وأن يطلبوا ما يريدون من ضمانات رقابية دولية لتحقيق انتخابات حرة ونزيهة، وعندها سوف تعيدهم شعبيتهم إلى الحكم، إن حصلوا على الأغلبية. وفي مقابل ذلك فإن على جميع القوى السياسية الأخرى، تمكين الإخوان ومناصريهم من الخروج الآمن من الميادين وعلى نحو لا يمس كرامتهم أو كبرياءهم.
أولاً: الأساس النظري:
1. أصبح من المسلم به في الفكر الدستوري والسياسي السائد، أن الشعب هو مصدر السلطة. وإذا كان هذا المبدأ قد طرحه ابتداءً فلاسفة العقد الاجتماعي، فإن من الأهمية بمكان أن نذكر، أن الشعب الإنجليزي قد استخلص من هذا المبدأ، حقه في الثورة على الملك جيمس الثاني عام 1688، التي أصبحت تعرف باسم الثورة العظيمة (Glorious Revolution)، وتم بموجبها عزل الملك، وتدوين مبدأ الشعب مصدر السلطة في بريطانيا لأول مرة، في وثيقة رسمية، هي وثيقة الحقوق الدستورية (Bill of Rights) عام 1689، التي وقعها وليم أورانج الهولندي، ليصبح ملكاً على بريطانيا، في مقابل توقيعه على وثيقة الحقوق المذكورة، لكونه زوج ابنة الملك جيمس الثاني الذي خلعته الثورة. وكان أول تعميد متكامل للمبدأ السابق على الواقع، في عهد جورج الثالث (دام حكمه من عام 1760 – 1820)، عندما تم الفصل بين المُلك والسلطة، بحيث تكون ممارسة الحكم من قبل حزب الأغلبية، باعتبار وجود الأحزاب وتناوبها على السلطة تبعاً لثقة الشعب بها، هو الوسيلة لتحقيق المبدأ، ومن ثم ليصبح ذلك أساساً في دساتير أنظمة الحكم البرلماني في أوروبا، التي يطلق عليها الملكيات الدستورية. وبدءاً من الدستور الأميركي الذي تم إقراره عام 1787 ليبدأ سريانه من عام 1789، أصبحت تأخذ بمبدأ الشعب مصدر السلطة دساتير النظام الرئاسي.
2. وحيث أن تطبيق مبدأ الشعب مصدر السلطة، وسيلته المتاحة هي قيام الشعب بانتخاب من يحكمه، والنص على ذلك في الدساتير، فقد خشي العقل الدستوري مبكراً، من انحراف صاحب السلطة الذي أفرزه صندوق الانتخاب، وطرح التساؤل: هل ينبغي السكوت على انحراف من بيده السلطة حتى نهاية مدته الدستورية، فيتعاظم الضرر الذي يلحق بالمجتمع ومصلحته العامة، أم أنه يصبح من الضروري وضع حد للانحراف قبل تفاقمه، وفي هذه الحالة، ما هي الوسيلة لتحقيق ذلك.
3. في تلك الفترة المبكرة من حياة النظم الدستورية التي تطورت الى ما نعرفه عنها في الوقت الحاضر، لم تكن فكرة الاستفتاء لمعرفة توجهات الشعب قد عمدت بعد، ومن ثم أجاب واضعو ميثاق الاستقلال الأميركي الذي انبنى على أساسه دستور أميركا لعام 1787، وبدأ سريانه عام 1789، بنص في الميثاق يؤكد، أنه إذا انحرفت سلطة الحكم وأصبحت ممارساتها ضارة بمصالح الشعب وتطلعاته، يكون من حق هذا الشعب وواجبه خلعها وتنصيب غيرها مكانها.
وبكلمات النص الأميركي:
“… it is their right, it is their duty, to throw off such government, and to provide new guards for their future security”.
4. وقد أخذ بالمبدأ الوارد في الميثاق الأميركي على النحو السابق، إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي عام 1789 (Declaration of the Rights of Man and Citizen) الذي صاغته الثورة الفرنسية، وظهرت قيمته في مقدمة preamble عدد من الدساتير الفرنسية، حتى ترسخ المبدأ في وجدان الفكر السياسي الفرنسي والأوروبي.
5. والسؤال هنا، هل لا تزال الثورة في وقتنا الحاضر، هي وسيلة الشعب في إزاحة السلطة المنحرفة عن الحكم، وإحلال غيرها مكانها؟
ثانياً: الجواب من سابقة فرنسا وديغول المشابهة لحالة مصر ومرسي:
إن هذا السؤال، أجاب عليه الشعب الفرنسي عام 1969، وأيد هذا الجواب الرئيس شارل ديغول عظيم عظماء فرنسا، في سابقة حفرت حضورها في الفكر السياسي والدستوري، وذلك وفقاً لما يلي:
1. ففي ذلك العام، أي 1969، قرر الجنرال الرئيس ديغول وحكومته إجراء إصلاحات دستورية وجدها مهمة لفرنسا، وأن يتم استفتاء الشعب الفرنسي عليها، في ظل ظروف كانت فيها مظاهرات الشعب الفرنسي ضد نهج ديغول في الحكم على أشدها. فقد كانت المظاهرات قد اندلعت في كلية الآداب في ناتير، وكان رد السلطة حاسماً بإغلاق الكلية. واحتجاجاً على هذا الإغلاق، امتدت المظاهرات الى جامعة السوربون والحي اللاتيني وغير ذلك من المناطق، فواجهتها شرطة ديغول بإجراءات حازمة، الأمر الذي جعل باريس تشهد أكبر المظاهرات التي تهتف ضد ديغول وحكومته. وامتدت المظاهرات بعد ذلك الى المصانع والمؤسسات المختلفة، تؤيدها أحزاب اليسار والوسط، وعلى نحو وقفت فيه فرنسا مشلولة أمام ما حدث. فقد أخذ العمال بالمطالبة برفع الأجور وتخفيض ساعات العمل، وضرورة الحصول على حقوق نقابية في المشروعات التي يعملون فيها. وترتب على ما حدث، انخفاض الدخل القومي بنسبة (4 %)، واستتبع ذلك المضاربة على الفرنك الفرنسي الذي أخذ سعره في التدهور، وأخذ علماء المال والاقتصاد ينادون بضرورة تخفيض قيمة العملة الفرنسية .... الخ.
2. وهكذا وجد ديغول نفسه أمام ثورة شعبية هزت الثقة في وجوده، إن لم تسحبها منه، وأمام اقتصاد يوشك على الانهيار، وعملة أخذت قيمتها السوقية بالتآكل، فماذا يفعل، هل يستقيل، رغم أن مدة رئاسته تنتهي عام 1972؟
وهذا الحال الذي واجهه ديغول، هو ذات الحال الذي واجهه الدكتور محمد مرسي مع شعبه، خلال النصف الأول من عام 2013، ووصل الأمر إلى ذورته في الفترة من 30 حزيران (يونيو) حتى 2 تموز (يوليو).
3. لم يتردد الجنرال ديغول، ويتجاهل عمق المبدأ الديمقراطي الذي يسكن في وجدان الشعب الفرنسي، ومن ثم يستند الى صندوق الانتخاب الذي أعطاه الحق الدستوري برئاسة فرنسا حتى كانون الأول (ديسمبر) عام 1972. فخلال حمأة المظاهرات والاحتجاجات والإضرابات، اختفى الجنرال، دون أن يعرف رئيس وزرائه جورج بومبيدو أو أي من أعضاء حكومته، أين اختفى الجنرال وماذا حدث، في حين كانت فرنسا على شفا ثورة عارمة أو حرب أهلية. وبعد يومين ظهر الجنرال، وتبين أنه سافر سراً إلى بادن بادن في ألمانيا، للاجتماع مع الجنرال ماسو (Massu) قائد الجيش الفرنسي الموجود هناك، كما تبين أن سبب السفر كان لسؤال قائد الجيش، هل لا يزال الجيش يثق به كرئيس للجمهورية؟ وكان تقدير السياسيين الفرنسيين أنه لو كان الجواب بالنفي، لقدم الجنرال استقالته، لكن الأمر كان خلاف ذلك، إذ عندما وجد الجواب بالإيجاب، عاد الجنرال فرحاً، ليستكمل التعرف على ما إذا كانت أغلبية الشعب لا زالت تثق به وبنهج حكمه أم لا، وذلك من خلال قيامه بطرح تعديلاته الدستورية للاستفتاء على الشعب الفرنسي.
4. بتاريخ 25/4/1969، نشرت صحيفة الفيغارو الفرنسية نتيجة الاستطلاع الذي قامت به مؤسسة S.O.F.R.E.S. يومي 21 و 22 نيسان، بأن الذين سيعارضون الجنرال
(53 %) من المقترعين على الاستفتاء، لكن الجنرال، رد على ذلك برسالة وجهها للشعب الفرنسي عندما صرح في ذات يوم 25 المذكور، بأنه إذا لم يوافق الشعب بأغلبية على الاستفتاء، فسوف يستقيل فوراً. وقد انطلق في ذلك من أن نتيجة الاستفتاء تعني عنده مدى ثقة الشعب به، ومن ثم قام بطرح التعديلات للاستفتاء. وفي مساء يوم 27/4/1969، أعلنت نتيجة الاستفتاء، فكان المعارضون للتعديلات 52.87 % والمؤيدون لها 47.13 %. وبالرغم من أن الاستفتاء لم يكن حول شرعة الوجود الدستوري لديغول في الحكم واستمراره فيه، وإنما كان حول تعديل بعض المواد في الدستور، إلا أن هذا القائد التاريخي لفرنسا الحرة ومحررها من الحكم النازي، اعتبر ذلك إشارة الى أن الثقة الشعبية فيه قد انحدرت عما ينبغي أن تكون، وأنه ما دام أن الشعب هو مصدر السلطة، وهو الذي يعطي الثقة لرئيس دولته، فإنه لا يقبل أن يظل رئيساً بعد اهتزاز ثقة الشعب به. وفي الساعة 11 من مساء يوم 27/4/1969، استقال زعيم فرنسا ومؤسس جمهوريتها الخامسة، وترجل فارس فرنسا بعد (11) سنة في الحكم، لتسري استقالته بدءاً من الساعة (12) من ظهر اليوم التالي 28/4/1969.
المحصلة لما سبق
يؤكد ما أسلفنا، أن شرعية الصندوق التي يجسدها الانتخاب من الناحية الدستورية، يمكن أن يقف في وجهها شرعية شعبية احتجاجية أو ثورية، وفي الحالين، فإن كل واحدة من الشرعيتين، بمقدورها أن تستند الى مبدأ الشعب مصدر السلطة. وهنا يفرض الواقع نفسه: فإن تنحّت السلطة القائمة، استشعاراً منها باهتزاز شرعيتها أو اضمحلالها أو فقدانها، نكون أمام انتقال سلمي للسلطة وفقاً للشرعية الدستورية القائمة، وتستأنف السلطة الجديدة مسار الحكم وفقاً للأحكام الدستورية الموجودة، كما حدث في حالة الجنرال ديغول. أما إن رفضت السلطة القائمة التنحي، وقاومت الاحتجاج أو الثورة، فإننا نكون أمام احتمالين:
الاحتمال الأول: أن تنتصر السلطة القائمة على الحالة الاحتجاجية أو الثورية، فتعتقل وتسجن وتبطش من خلال الشرطة والجيش وأجهزتها الأمنية. وهنا فإن سلطة الحكم القائم سوف تعتبر القائمين على الحالة المذكورة من محتجين أو ثوار، أنهم خارجون على الشرعية الدستورية والقانونية القائمة التي تجسد الشعب كمصدر للسلطة، وتحاسبهم على هذا الأساس.
الاحتمال الثاني: أن ينجح المحتجون أو الثائرون ويسيطروا على الحكم، وفي هذه الحالة يتم تجميد أو إسقاط الدستور الذي كانت تستمد السلطة المهزومة شرعيتها منه، وتحل مكان تلك الشرعية، شرعية ثورية، تستند واقعياً الى مبدأ الشعب مصدر السلطة أيضاً، وتستطيع السلطة الجديدة هنا إن أرادت، أن تستدعي، نظرياً، المبدأ السابق الضارب في أعماق الفكر السياسي والدستوري وهو، أن من حق الشعب الثورة على سلطة الحكم التي انحرفت عن مصالح الشعب. وهذه الشرعية الثورية، معروفة ومألوفة في الفكر السياسي والدستوري. وعند هذه المحصلة، يصبح غير مجدٍ صوت السلطة السابقة، إن تسترت بثوب شرعية الصندوق من أجل العودة للحكم، وتجاهل ما كان قائماً ويحتاج الى حسم، لخطورة استمراره على الوطن والمجتمع. وهذا الأمر يدخل تحت المبدأ الذي أشار إليه شيخ الجامع الأزهر عندما قال: "دفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر
ثالثاً: تطبيق ما سبق
على الواقع المصري:
1. ليس هناك من شك بأن الدكتور محمد مرسي الرئيس المنتخب لمصر، قد ارتكب، كما اعترف الرجل نفسه في خطبه الأخيرة، أخطاء خلال السنة التي أمضاها في الحكم. ورغم الاختلاف بين المعارضين والمؤيدين له، حول نوع هذه الأخطاء وحجمها ومداها، إلا أنه من المسلّم به واقعياً، أن حملة تمرد التي قام عليها خريجو الجامعات من الشباب، واستقطبوا للعمل معهم زملاءهم في جميع محافظات مصر، قد تمكنوا من حشد ملايين التوقيعات المطالبة بالاستفتاء على استمرار الرئيس في الحكم، أو بانتخابات رئاسية مبكرة، بعد أن وجهوا اتهامات له، بأنه جعل حزبه يسيطر على مسار الدولة، فتدهور الاقتصاد وساءت الأحوال، وغدا صوت الأحزاب والقوى السياسية الأخرى، هكذا يقولون، فاقد القيمة والجدوى. ورغم التشكيك من قبل مؤيدي مرسي بهذه الاتهامات، وبأن التوقيعات لم تبلغ (22 مليون) توقيع، كما أعلن القائمون على حملة تمرد، إلا أن القائمين على الحملة تمكنوا بغير شك، من حشد ملايين المصريين في ميادين مصر وشوارعها، لتردد من الناحية الواقعية تلك الاتهامات ضد الرئيس محمد مرسي، ومثل هذا يشكل بالحتم، أمراً لا يجوز تجاهله، ويحتاج من القائم على السلطة إلى علاج.
2. وفي هذا الصدد، فإن مقدار العدد للمحتجين أو الثائرين، له عند بعض من تصدى للموضوع أثره الواقعي على وصف ما حدث في مصر، خلال الفترة من 30 حزيران (يونيو) حتى 3 تموز (يوليو). وفي الوقت الذي تشير فيه المعلومات المنشورة إلى أن العدد يقدر بالملايين، إلا أنها تختلف في عدد هذه الملايين. وبالرغم من أن الإخوان المسلمين والجماعات المؤيدة لهم وللرئيس محمد مرسي، يشككون في تلك الأرقام، فإن الرقم الذي ذكره السيد توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا السابق لعشر سنوات والمبعوث الدولي للشرق الأوسط، وهو (17 مليون) مصري، كان الأكثر تردداً، حتى أنه تم وصفه بأنه أكثر تجمع بشري ضد سلطة حكم، عرفته البشرية حتى الآن. وفي مقابل ذلك، فقد حشد الإخوان المسلمون والمؤيدون للدكتور محمد مرسي، أعداداً كبيرة تنادي بضرورة الالتزام بالشرعية الدستورية، وعدم الخروج على الديمقراطية التي قامت ثورة 25 يناير من أجلها، وبالتالي عدم الخروج على الشرعية الديمقراطية لمن جاءت به صناديق انتخاب الرئيس. وفي هذا المجال، فقد حاولت جاهداً أن أصل إلى رقم تقديري للأعداد المحتشدة تأييداً للدكتور محمد مرسي، فلم أجد فيما هو متداول في وسائل الإعلام، سوى التأكيد بأن الأعداد المعارضة في احتشادها أكبر بكثير من تلك المؤيدة.
3. ورغم أن رقم الـ (17 مليون) يظل جدلياً ولا يحسم أمراً، فإن البعض يستخدم هذا الرقم، للإشارة إلى عدد الأصوات المتعلقة بانتخابات الرئاسة المصرية التي فاز فيها الدكتور محمد مرسي، من حيث أنه بلغ عدد المشاركين في الانتخاب حوالي (26 مليوناً)، حصل محمد مرسي منها حوالي (13.5 مليون)، وحصل خصمه أحمد شفيق على حوالي (12.5 مليون) صوت. وبمعزل عن حديث الأرقام الذي يظل مرسلاً، فإنه من الناحية الدستورية ليس هناك من شك، بأن الدكتور محمد مرسي أصبح رئيساً لمصر بموجب الأغلبية التي حصل عليها في صندوق الانتخاب. وهنا ينبغي أن نؤكد أن الرئيس مرسي جاء على أعقاب حكم دام ثلاثين سنة، وأدانه الشعب قبل القانون بالفساد والإفساد، الأمر الذي أدى إلى أنه بعد سنة واحدة من حكم مرسي، ظهرت آثار التركة التي ورثها الرجل من عهد حسني مبارك، وما ساهم فيه عدم استقرار الأوضاع التي جاءت على أعقاب الثورة، وذك من حيث تردي الواقع الاقتصادي والمالي، وانخفاض قيمة العملة، والعجوزات المالية، وانخفاض حجم الاحتياطيات في البنك المركزي ... الخ. وهكذا فقد استخدمت هذه الأوضاع وغيرها، من قبل القوى السياسية والمجتمعية، كأسباب لخروج الملايين التي وجهت للرئيس مرسي اتهامات تهز الثقة فيه أو تسحبها منه، مطالبة باستفتاء على بقائه في السلطة أو إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، مما شكل حالة واقعية تحتاج إلى حسم. لكن الرئيس لم يوافق على إجراء الاستفتاء المطلوب أو الانتخابات الرئاسية المبكرة، مستنداً في ذلك إلى الشرعية الدستورية والديمقراطية، لصندوق الانتخاب، وقدم في آخر خطاب له، اقتراحات لم تكن مقبولة من الجماهير المعارضة، الأمر الذي يعني بالضرورة، أن استمرار هذه الملايين الثائرة في ميادين مصر وشوارعها، يشكل خطراً حقيقياً على الأمن الوطني المصري. وفي تقديري، فإن الذي قاد إلى هذه الحالة الواقعية، هو عدم تجذر المفهوم الديمقراطي كأسلوب حكم ونهج حياة، في الواقع المعاش، سواء في مصر أو في مجتمعات الوطن العربي ودوله، حيث طال حكم الفرد الأوحد، رغم أن العلماء في مصر والوطن العربي، بمقدورهم تعليم النظرية الديمقراطية من حيث الفكر، لأبناء أوروبا. وليس بكافٍ أن يمضي عام أو أكثر على السلطات التي جاء بها الربيع العربي بانتخاب ديمقراطي، حتى يغير في أعماق الحاكم والمحكوم، ما تعايشوا معه من نهج سلطة انفردت بالحكم لأمدٍ دام لعقود، وثقافة انفراد السلطان بالحكم في دولة الخلاف قبلها، الذي استمر على مدى قرون. ومما زاد في تفاقم الحال على واقع مصر، أن الجماهير التي خرجت بالملايين، لا زالت تعيش الأسلوب الذي عُزل بمقتضاه حسني مبارك في ثورة 25 يناير، من خلال احتشادها في الميادين، بعد كسر حاجز الخوف، رغم الاختلاف في التكوين الشخصي للرئيسين مرسي ومبارك، وذلك استمراراً لقناعةٍ لدى المحتجين ترسخت لديهم منذ 25 يناير، بأن أسبابهم تعطيهم حق الثورة على حاكمهم. وهكذا، فلم يكن أمام الرئيس مرسي لحسم الحال الخطر الموجود على الأرض، سوى الإستجابة لطلب الملايين المحتشدة، أو الاستقالة، أو أن يأمر الجيش والشرطة بتفريق المحتشدين وإعادة الحياة إلى مجراها، وفي جميع هذه الحالات، سيكون قرار الرئيس مستنداً إلى شرعية دستورية.
4. لكن الذي حدث، أن انحياز الجيش لمطالب الملايين المحتشدة، فرض حالة واقعية مستجدة. فالجيش، وهو العمود الفقري لحماية الأمن الوطني المصري، أعلن أنه استشعر خطراً محدقاً بالوطن، ونبّه الرئيس لخطورة الوضع، ومدى احتمالية تداعيه إن لم يستجب هذا الرئيس لطلب الجماهير. وفوق ذلك، فقد أصبح واضحاً للرئيس أن قوات الجيش والشرطة والقضاء والإعلام، تناصر المعارضين، وليست معه في عدم تقديمه للحل الذي يعيد الملايين المحتشدة الى بيوتها. ومع رفض الرئيس مرسي الاستجابة لتحذير الجيش وعدم الموافقة على ما يطالبونه به، كخطوة لتهدئة تلك الملايين، انضم هذا الجيش الى ثوار 30 يونيو، كما سبق أن انضم الى ثوار 25 يناير عام 2011، وفي الحالين تم تعطيل العمل بالدستور، وعزل رئيس الجمهوية. لم يكن الذي حدث في 30 يونيو من صنع الجيش ابتداءً، وإنما كان من صنع الشعب، أو قطاع واسع من الشعب، تماماً مثل ما حدث في 25 يناير، وكما حصل في الثورات الشعبية التي حدثت في التاريخ. وترتب على هذا الذي حدث، الإنهاء الواقعي للشرعية الدستورية وشرعية الصندوق، وحلول شرعية أخرى مكانها. ليس من المجدي في تحديد وصف انحياز الجيش، الاتفاق أو الاختلاف حول سلامة ما قام به، ولكن المجدي هنا، هو أن المطالب التي عملت حركة تمرد على مدى شهور من الزمن لحشد الملايين لكي تتبناها، هي ذاتها التي رددها الجيش عند انحيازه، وبالتالي، فإنه من غير الممكن أن يُسمى ما حدث انقلاباً، لأن الأمر لم يكن سراً أو مفاجئاً، وإنما كان حالة شعبية موجودة على أرض الواقع ومعروفة المطالب، ومن ثم فإن وصف الانقلاب لا ينطبق على الحالة التي أوجدتها أساساً، الملايين التي خرجت يوم 30 يونيو، لأن هذا الوصف يفرغ أسباب خروجها ودوافعه من مضمونها. ويلغي مدلولات هذا الخروج وينكر وجود واقع قائم. ويقطع بهذه الصفة الثورية، الملايين التي خرجت يوم الجمعة 26 يوليو/تموز، استجابة طوعية منها لطلب قائد الجيش ووزير الدفاع عبد الفتاح السيسي، باتفاق مع رئيس الجمهوية المؤقت والحكومة، كما تم إعلانه، بهدف أن يكون ذلك استفتاءً واقعياً على الطبيعة الثورية لانحياز الجيش لمطالب الملايين المحتشدة، وللتغيير الذي حدث في مصر. وفي ظني، ليس من المعقول أن نتهم آلاف الشباب الذين خططوا ونفذوا مسار حركة تمرد، بأنهم جزءاً من مؤامرة أمريكية أو غربية، ذلك أن هؤلاء الشباب، لم يكونوا قيادات أو وجوهاً سياسية معروفة من أحد، ولا كانوا تابعين لأي حزب أو فصيل سياسي في مصر، كما أنه لا شأن لهم بجبهة الانقاذ الوطني التي شكلتها التيارات السياسية. وهكذا أدى انحياز الجيش لحشود حركة تمرد، إلى خلق واقع جديد، لا ينفع معه ولا يجدي، الاتهام بالخروج على شرعية الصندوق. وبالطبع فإن مثل هذا الانحياز، لا بد وأن يصاحبه احتمالية وقوع بعض الضحايا بحجة ضبط الأمن، لكن هذا لا يجوز أن يعفي من إحالة من تجاوز حدوده في أي إيذاء أو قتل إلى القضاء، ليقول كلمته فيه.
5. إن الفكر السياسي لم يكتشف بعد وسيلة للتعامل مع الرئيس الذي جاء به صندوق الانتخاب عند خروج الملايين من شعبه عليه، سوى تنحيه، أو الاستفتاء على بقائه، أو عزله عند رفض إجراء الاستفتاء، وهذه هي الخيارات التي كانت متاحة للجنرال ديغول. والعزل إما أن يكون دموياً عن طريق اندفاع الجماهير الثائرة إلى العنف ضد الرئيس، وإما سلمياً عن طريق انحياز الجيش الى الجماهير، مع احتمالية وقوع ضحايا كما أسلفنا، وذلك باعتبار الجيش أداة مؤسسية حمائية الدور والواجب. ومن ثم إيصال الأمور الى شاطئ الأمان ليحكم الشعب نفسه. وهذا ما حدث في مصر.
6. ليس من مصلحة مصر ولا مصلحة الإخوان المسلمين ومن يناصرهم من التيارات، الاستمرار في الاحتجاج والاعتصام، والتهديد بأنهم سوف يستمرون في اعتصامهم واحتجاجهم الى حين عودة الدكتور مرسي الى الحكم، إذ مثل هذا المطلب أصبح يقف في وجهه الجماهير التي خرجت، ومعها الجيش وقوات الأمن العام، إضافة الى القضاء والإعلام ومؤسسة الأزهر ومؤسسة الكنيسة، والعديد من الأحزاب والقيادات السياسية والتيارات المدنية، وغدا الإصرار على مطلب عودة ما كان الى ما كان، مستحيل التحقق، وذلك لاستحالة تراجع من خرجوا، ومن قام باحتضانهم على النحو المذكور. ومما يعزز هذه الاستحالة، بمنطق المكنون الشخصي والنفسي غير المعلن، أن هذا التراجع يعني من الناحية القانونية البحتة، إعادة خضوع الجميع، قادة تمرد بملايينها ومعها قادة الجيش وكل من ناصر وأيد وشارك، للشرعية الدستورية التي كانت قائمة، وقوانينها العقابية، وهو أمر ترفضه الطبيعة البشرية التي تنتصر للذات تلقائياً، كما لم يسبق أن حدث في ثورات جسدت لها سلطات على أرض الواقع.
7. إن الحق في الشرعية الدستورية أو في شرعية الصندوق، يفقد قيمته وأثره الواقعي، إن تجرد من الحماية القانونية المفروضة عنوة عند الحاجة، إذ الحق في الفكر القانوني، هو مُكنة أو سلطة لإرادة واعية يحميها القانون عن طريق الفرض بالقوة عند الاقتضاء. فإذا كانت أدوات الفرض في النهاية، وهي قوات الجيش والشرطة، التي لها صلاحيات الفرض والقدرة عليه، قد رجحت الانحياز للملايين المحتشدة في ميادين مصر، انطلاقاً من أن هذه الملايين هي صاحبة الحق الأصيل في الشرعية، فهذه هي الشرعية الثورية لا محالة، التي يصبح بعدها الحق المستمد من الصندوق فاقداً لقيمته وأثره، من الناحية الواقعية، وذلك لحلول حق لسلطة جديدة مستمد من الشرعية الثورية مكانه. ومثل هذه الشرعية الثورية من الناحية النظرية المجردة، كان قد استخدمها المجلس العسكري في أعقاب ثورة 25 يناير، وأصدر بموجبها إعلانات دستورية، كما استخدمها الرئيس محمد مرسي في أول عهده، وأصدر إعلانات دستورية لا سند لها سوى الشرعية الثورية رغم أنه رئيس منتخب. وانطلاقاً من هذه الشرعية الثورية، أصدر الرئيس المؤقت عدلي منصور، إعلاناً دستورياً تم بموجبه تشكيل الحكومة، وفقاً لخريطة طريق أُعلن أن هدفها هو بناء المؤسسات الدستورية المطلوبة للدولة. وأعتقد أن الحالة المصرية التي أفرزتها الثورة المستجدة، سوف تضيف جديداً يقاس عليه، إلى الفكر السياسي والدستوري في العالم، يكون سابقة موازية وبشكل متقدم، على سابقة الحالة التي أفرزتها ثورة الشعب الفرنسي ضد الجنرال ديغول. ولذلك، فإن أية مقاومة للشرعية الجديدة في مصر، سوف تكون خروجاً على سلطة فعلية بموجب ثورة تعمد دستورها، وستكون مقاومة بغير جدوى، وسوف يترتب عليها المزيد من الدماء، واحتمالية التأثير السلبي على شعبية الإخوان المسلمين ومناصريهم.
8. لكنه في هذا المجال، ينبغي إبداء ملاحظة قانونية ضرورية وهي، أن الدكتور محمد مرسي، كان قد تم اعتقاله أثناء احتجاجات ومظاهرات ثورة 25 يناير 2011، وبسببها تم إيداعه في سجن وادي النطرون في اليوم الرابع للثورة، أي 28 يناير، من قبل سلطات حكم الرئيس مبارك. وحيث أن الفعل المنسوب للدكتور مرسي وشاركه فيه ملايين المصريين خلال فترة الثورة، أسقط الحكم المذكور، وبالنظر الى اعتبار أن تلك الملايين، كانت قد مارست حقاً شرعياً ثورياً يحصنها من الاتهام بالتظاهر والخروج على نظام الرئيس مبارك القائم حينها، وأن ما قامت به أصبح من المباحات، فإن ذلك ينطبق على الدكتور محمد مرسي حتماً، وبالتالي فإن حبس الدكتور مرسي لم يكن سليماً بموجب الشرعية الثورية، وكان من حقه أن يظل طليقاً، أسوة بغيره من الملايين، ومن ثم يكون مجرد مغادرته لسجن تم حبسه فيه لسبب جعلته الثورة مشروعاً، مشروعاً أيضاً. وبغير هذا، فإن الملايين التي شاركت مع محمد مرسي في الاحتجاجات والمظاهرات، كان ينبغي حبسها أسوة به، وهو أمر يعدم جدوى الثورة ومفاعيلها، ويدخلنا في عالم اللامعقول!!
9. ومن حيث القانون الدولي في هذا الصدد، فإن الذي يجسد إرادة الدولة المصرية أمام العالم الآن، هو من بيده السلطة الموجودة على أرض الواقع، أي رئيس الجمهورية المؤقت والحكومة التي أصدر الرئيس قراراً بتشكيلها.
10. أمام ما سبق، فإني مخلصاً، أنصح الإخوان المسلمين في مصر، ومعهم جماعات التيار الديني، ومن يناصر الدكتور محمد مرسي، إنهاء اعتصاماتهم والعودة لمنازلهم، والمشاركة في الخطوات اللاحقة لإعادة بناء المؤسسات الدستورية، والدخول في الانتخابات الرئاسية والنيابية، وأن يطلبوا ما يريدون من ضمانات رقابية دولية لتحقيق انتخابات حرة ونزيهة، وعندها سوف تعيدهم شعبيتهم إلى الحكم، إن حصلوا على الأغلبية. وفي مقابل ذلك فإن على جميع القوى السياسية الأخرى، تمكين الإخوان ومناصريهم من الخروج الآمن من الميادين وعلى نحو لا يمس كرامتهم أو كبرياءهم.