سلام لروحه ...المرحوم العفيف والوفاء للمشروع الوطني والنهضوي الهاشمي
لقد فقدت الأسرة الأردنية بعامة والأكاديمية بخاصة قبل أيام, قامة علمية ووطنية قل نظيرها . فقد غادرنا باحث تاريخي أردني رصين محبّ للأردن وتاريخه وترابه وللهاشميين بشكل خاص أكثر من حبه لنفسه.فقدنا الباحث الأستاذ الدكتور أحمد العفيف الذي كان قلما أردنيا وطنيا علميا بامتياز يعمل بصمت بين وثائقه ومصادره وطلبته وإنتاجه العلمي يشهد له بذلك.. لقد فقدنا بوفاة العفيف رجلا أكاديميا زاخرا بالعلم والمعرفة والخلق , بل مدافعا شرسا عن الأردن ونشأته وتضحياته واستهدافه من قوى متعددة بين الصهيونية والغربية الإستعمارية .أنه الصديق والاخ الدكتور أحمد خليف عيسى العفيف من جرش التاريخ حيث ولادته وإقامته و نشأته الكريمة وتربيته الوطنية بملاصقة أعمدتها التي تشهد على تاريخ الأردن الحضاري والسياسي .
لمن لا يعرف المرحوم الأستاذ الدكتور العفيف أقول له : أنه أحمد العفيف خريج الجامعة الأردنية عام 1998م لمرحلة الدكتوراه من الجيل المتوسط وليس القديم الذي تتلمذ على يد شيوخ المؤرخين الأردنيين أمثال : المؤرخ الفذعبد الكريم غرايبة وسهيلة الريماوي ,والمؤرخين العراقيين الكبار أمثال : عبد العزيز الدوري و عبد الأميرمحمد أمين . فنهل من مدارس علمهم الرصانة في العلم والمنهج والفكر .عرف وتشرّب العروبة والنضال والوحدة والاستقلال فاختار طريق البحث بجدية وبدقة وبموضوعية متناهية في الهاشميين حكما وإدارة ومنهجا طوال فترة دراسته العليا . فكان لتربيته وتعليمه وحبه للهاشميين والأردن أن تجذر عنده مفهوم الانتماء للأردن والولاء لقادته بشكل ملفت لكل من عرفه أو قرأ له أو حاوره ,أو جادله . فكان موال للهاشميين بالفطرة , وكان يفتخر بذلك الولاء فكان جزءا من شخصيته وفكره . وتابع بحوثه العلمية بعد تعيينه في جامعة البلقاء التطبيقية ,فكان مدافعا نهما عن الأردن وتاريخه في العهد الهاشمي متصديا للفكر المتطرف وباحثا في كل تحديات الأردن السياسية , بدءا من الأردن والحركة الجهادية السلفية 1992-2002م ,ثم الحراك الشعبي الأردني 2011-2014,مرورا بالأردن وتنظيم الدولة داعش 2014-2016, والدبلوماسية الأردنية تجاه قرار الأعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل 2017, وآخرها التجربة الديمقراطية الأردنية حيث بحثه عن النموذج الديمقراطي الأردني والتحديات القائمة 1999-2016.
تصدى العفيف أثناء دراسته لمرحلة الماجستير لمشاريع الملك عبدالله الأول الوحدوية وخاصة في بلاد الشام فبحث بمشروع سوريا الكبرى جامعا كل الوثائق المتعلقة بالموضوع من وثائق ومخطوطات ورسائل ومذكرات وخرج برسالته المعنونة ب" الملك عبدالله الأول ابن الحسين وقضية الوحدة السورية الكبرى. وفي مرحلة دراسة الدكتوراه توجه نحو الدور الهاشمي في بناء العراق فاتجه لدراسة " التطور الإداري للدولة العراقية في عهد الانتداب 1920-1932". جمع خلالها آلاف الوثائق الخاصة بذلك العهد وزار دور الأرشيفات الوطنية والعالمية للخروج بشيء علمي يليق بتلك الفترة من العهد الهاشمي . فشهد برسالته جهابذة التاريخ أمثال علي محافظة والدوري والغرايبة وأمين محمود وغيرهم .وكان أخرأعماله التي ودع بهاتاريخ الأردن عمل مشترك مع كاتب المقال أشرفت عليه جامعة البلقاء التطبيقية منشور على منصة الجامعة الإلكترونية عبارة عن محتوى إلكتروني لمادة التربية الوطنية مسجّلا على شكل فيديوهات في شهر حزيران 2024. وللأمانة أقول أنه بذل جهدا أنهكه حتى أنه كان مهتما بإخراج العمل بأحسن صورة وبسرعه قبل بداية الفصل الصيفي خوفا من إنشغاله بأشياء لا يعرف ما هي لإعتقاده أنها قد تعطله .وكأن العفيف كان على موعد مع القدر, وأراد أن يلقى ربه وقد دافع عن بلده الأردن بكل ما أوتي من علم وحكمة, فكان لقاؤه برب العالمين مرتاح الضمير حيث ودع الأردن والهاشميين على الحب مع إيمانه برسالتهم ومشاريعهم النهضوية وإيمانهم بالديمقراطية ,والاعتراف بفضلهم فابدع في الحديث عن الثورة العربية الكبرى ومشروعيتها وكثيرا ما كان يركز على نهج الملك المؤسس بسياسة " خذ وطالب " .جاعلا من الأوراق النقاشية فلسفة فريدة في الحكم .
لم يكن أحمد العفيف باحثا عاديا , بل صاحب فكر نير,تشربه وكونه من قراءاته لالاف الوثائق من خلال رحتله للعراق والتي أمضى فيها شهورا باحثا عن الوثائق البريطانية التي تلزمه هناك لكتابة دراسته لمرحلة الدكتواره والمعنونة ب " التطور الإداري للدولة العراقية في عهد الانتداب البريطاني 1920-1932 " . وكان حديثه لي رحمه الله - قبل شهر أو أكثر - من الآن أثناء رجوعنا بطريقنا من الجامعة في السلط إلى صويلح , حيث أنزلته ليعود لمدينته جرش التي عشقها وعرف تاريخها , فكان الوداع الأخير لأحمد ..فحدثني أثناءها عن معاناته هناك ,للحصول على تلك الوثائق الهامة والجهد المبذول لجمعها . وعند وصوله الأردن محملا بالوثائق أنبهر مشرفه الأستاذ الدكتورعبد الأميرأمين من حجم تلك الوثائق وقال له بما معناه أن العراقيين أنفسهم لا يقدرون على تحصيل تلك الوثائق . وأخذ يقارنه مع زملائه لتحفيزهم على جودة العمل الذي يقوم به.ولو كان علمي بالعفيف وبأنه سيكون آخر لقاءاتي به رحمه الله لأوقفت عقارب الساعة,ولكنه القدر الذي داهمك يا صديقي رحمك الله وإلى روحك السلام .
لقد كان أحمد العفيف مخلصا في عمله بشكل يفوق كل التصورات .لم يكن يشغله شاغل سواه والأردن وتاريخه المفترى عليه من قبل بعض المغرضين .كان مدافعا ومعجبا بحسن إدارة الهاشميين في إدارة العراق في تلك الفترة وبالنهضة العظيمة التي حققها . أما في الأردن فكان يرى أن الأميرعبدالله بنى دولة رغم شح الإمكانيات بذكائه ودبلوماسيته وحكمته جاعلا من القبول بالأردن وتأسيسها خطوة تمكنه من تحقيق هدفه المنشود بتحرير سوريا . ومن محاسن المرحوم العفيف أنك عندما تجالسه تشعر بأنك أمام موسوعة تاريخية وعمقا بتاريخ الهاشميين لا يوازيه فيه أحد .وأن أختلفت معه في النقاش في بعض المسائل ,لكنك تنبهر بذاكرته التاريخية وسعة أطلاعه وبإثباتاته المستندة للوثيقة التي كان دوما حريصا على اقتنائها ولو من ماله الخاص .
عتدما يأتي الحديث عن الملك عبدالله ألاول وفكره السياسي وطريقته في الحكم ومشاريعة النهضوية التي تراوحت بين مشروع سوريا الكبرى ووحدة الضفتين , تنفتح أسارير العفيف للدفاع عن ذلك المشروع الوحدوي حتى أنك لا تجد نفسك أمام باحث عادي فقط - أو قاريء للتاريخ بل تجد نفسك أمام موسوعة علمية شاملة لكل ما يخص النسب الهاشمي في المنطقة وفكرهم السياسي ومشاريعهم - بل تجد نفسك أمام مؤرخ عنيد وشجاع خصص فكره وأحاسيسه للدفاع عن الهاشميين ومشاريعهم . وقد يغضب إن لم يعجبه طرحك فيصر على طرحه المستند للوثيقة ونظافة هذه العائلة ونضالها من أجل العروبة رغم محاولات البعض تشويه الصورة. فقناعة العفيف بهذا المشروع ليس لها حدود, وأثباتاته هي الوثيقة وتضحية الشريف حسين بملكه من أجل العرب وفلسطين.
يرى العفيف في حديثه عن مشاريع الملك عبدالله الأول الوحدويه وسعيه لتحقيقها قوله " أن الملك عبدالله الأول بعد تحقيقه الاستقلال للأردن أخذ يسعى بكل جدية لتحقيق هدفه الأكبر المتمثل في إعادة توحيد الأقطار الشامية ( الأردن ,سوريا, لبنان ,فلسطين ) في إطار دولة واحدة وإعادتها إلى سابق عهدها وبشكل يتفق مع طموح أبنائها وإزالة كل الحدود والتقسيمات التي وضعها الاستعمار في أتفاقية سايكس – بيكو . وقد نجح بتحقيق أول خطوة في هذا الإطار عام 1950 ممثلة بوحدة الضفتين في إطار المملكة الأردنية الهاشمية لتكون أول وحدة حقيقية في تاريخ العرب الحديث . وكان من نتيجة هذا الإنجاز العظيم الذي لا يتفق مع مصالح القوى الاستعمارية والصهيونية وبعض الزعامات العربية التي تخشى على مصالحها الشخصية من تحقيق مشروعات الهاشميين الوحدوية أن دبرت له مؤامرة الاغتيال لإجهاض مشروعاته ممثلة بمشروع سوريا الكبرى والهلال الخصيب الذي أصبح تحقيقهما خلال تلك المرحلة قاب قوسين أو أدنى".
لقد كان العفيف بسيطا ومتواضعا رغم علمه وكتاباته وأبحاثه الكثيرة العلمية عن الهاشميين في الأردن والعراق. ولهذا كان يرفض أن يطلق عليه لقب مؤرخ فكان يقول لي رحمه الله نحن "باحثين"ولم نصل إلى درجة المؤرخين بعد. فالمؤرخون بنظره هم أصحاب مدرسة علمية وفكرية . ونحن لم نصل لدرجة أولئك الذين دونوا مئات الكتب الذين عرفوا بمنهج في الكتابة التاريخة بل بمدرسة تاريخية يقتدي بهم من جاء بعدهم .ورغم ذلك فأجد نفسي بعد وفاته منحازا لتلك القامة الأردنية التي كانت تستميت في الدفاع عن كل ما يخص الأردن أو تاريخه أو سيادته وكان أكثر من ذلك بكثير عندما يخص الهاشميين وخاصة الملك عبدالله الأول والملك طلال والملك حسين والملك عبدالله الثاني وخاصه فكره المعارض للإرهاب والفكر المتطرف . ولهذا يحق لي تجاوزا أن أقول أنه كان "مؤرخا للهاشميين وتاريخهم ونضالهم"وكان يقول دائما لي الشرف في ذلك . فكان الأكثر وفاء لهم وتضحياتهم والأكثر دفاعا ضد معارضيهم والمشككين بهم ولهذا يستحق أن يرتبط بهم.
لقد كان العفيف من أشد المعجبين بالأمير عبدالله بن الحسين وفكره السياسي بل وبذكائه وقدرته الفائقة على تحصيل الاستقلال من الإنجليز, معتبرا أن خصومه كثر وخاصة من العرب وحتى الإنجليز الذين كانوا يتخوفون دوما من طروحاته للوحدة بين أقطار بلاد الشام ,لما لهذه المشاريع من إضرار بمصالهم الذاتية والقطرية, حتى كانوا يعارضون مشروع الوحدة بين الأردن والعراق . ولهذا فقد كان كتابه عن الملك عبدالله الأول ومشروع سوريا الكبرى من أفضل ما كتب عن تلك المسألة . وعند حديثه عن وحدة الضفتين اعتبرها العفيف أنها أول مشروع لوحدة عربية حقيقية في تاريخ العرب الحديث على أرض الواقع .
يقول الأستاذ الدكتور المرحوم العفيف في مقالته المعنونة ب" منهجية الملك المؤسس ومنطلقاته في بناء الدولة الأردنية " والتي كتبها تزامنا مع حادثة استشهاده الملك المؤسس وخصصها للحديث عن نهجه في بناء الأردن وأثر حادثة استشهاده على مشروع الهاشميين النهضوي بقوله : " وعلى الرغم من أن هذا العمل الإرهابي الجبان كان يهدف إلى إحباط توجهات القيادة الهاشمية الوحدوية وإجهاض مشروعاتها النهضوية إلا أنه لم ينجح في مسعاه ,بل زادت القيادة الهاشمية وخاصة الذين تولوا حكم الأردن بعد استشهاد المؤسس عزيمة وتصميما على السير قدما بخطى ثابتة نحو تحقيق طموحات الأمة الذي جسدته الثورة العربية الكبرى بالوحدة والحرية والأستقلال ".
لم يكتب أحمد العفيف عن الأردن والهاشميين لقاء مال أو جاه أو منصب أو غير ذلك, ولكنه كتب بدافع الواجب والحب والأنتماء والقناعة . ولكنه منذ أن فارق الحياة يوم الجمعة الحادي عشر من آب فقد غادرنا العفيف من غير رجعة , وبقي علمه النافع وأثره الطيب . ومن باب الود للرجل ومقابلة الحب بالحب يستحق منّا العفيف ومن المسؤولين في بلادنا الحبيبة ,بأن يخلد أسمه في شوارعنا أو قاعاتنا أو أي أثر مادي اعترافا منا بحبنا له, وتقديرا لانتمائه لبلاده وولائه لقيادته .
*الباحث والأكاديمي في جامعة البلقاء التطبيفية