ترامبونوميكس

د.جواد العناني
جو 24 :
في يوم من الأيام في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي طلع علينا الاقتصاديون والإعلاميون بمصطلح "ريغانوميكس" أو "اقتصاديات ريغان"، مبينة أن الرئيس الأميركي في ذلك الحين، والذي يحمل رقم 40 له مدرسة اقتصادية تدعو إلى إطلاق سراح القطاع الخاص والمبدعين، والتقليل من الضرائب والإنفاق الحكومي، وفتح أبواب التجارة مع العالم. ولذلك اتسمت سياسات الرئيس ريغان بالانفتاح وبتحويل الاقتصاد العالمي إلى سوق واحدة، والعمل على خلق منظمة تجارة عالمية تسعى لتذليل كل القيود والعقبات التي تقف دون حرية التجارة والمرور، عائدة بنا إلى الجملتين الشهيرتين اللتين حددتا هوية الاقتصاد الرأسمالي الجديد كما يراه آدم سميث، حين قال "دعه يعمل، دعه يمر".
وقد تمكن الرئيس ريغان في ذلك الوقت من تحقيق ذلك بسبب انهيار الاتحاد السوفييتي، وبسبب أن انفتاح الولايات المتحدة على الصين بعد زيارة الرئيس السابع والثلاثين للولايات المتحدة، ريتشارد نيكسون، لها قد بدأت تنهي ثورتها الثقافية وتسعى لتوسيع حلقات تعاونها والاندماج أكثر وأكثر في الاقتصاد العالمي. أما أوروبا فقد كانت تسعى لتعزيز مؤسسات السوق الأوروبية المشتركة وتحويلها إلى الاتحاد الأوروبي. كل هذه الظروف، بالإضافة إلى التراجع الكبير في أسعار المواد الأساسية مثل النفط والمواد الخام المعدنية والمنتجات الزراعية، خاصة في العامين 1986 و1987، ساهمت في نجاح سياسة ريغان.
ولذلك ما لبث أن تآكل الاتحاد السوفييتي، واختصرت مساحته الواسعة إلى انفراد روسيا عن باقي الدول. والصين قبلت أن تفتح أسواق العالم أمام بضائعها الاستهلاكية الموجهة نحو التصدير. ولهذا، رأينا الوكلاء والوسطاء التجاريين في العالم يستثمرون ويطلبون من الشركات الصينية إنتاج السلع التي يريدونها، ثم يعيدون تسمية هذه البضائع إلى ماركات رائجة تباع بأضعاف السعر الذي اشتريت به. ولذلك حقق كبار أصحاب الشركات التجارية والوساطة والعلامات التجارية المعروفة أرباحاً ليس لها مثيل. وهكذا تضافرت عناصر القوة السياسية مع القوى الشرائية الهائلة والقوة العسكرية المساندة لها لتجعل اقتصاد الـ"ريغانوميكس" مغنماً كبيراً للاقتصاد الأميركي.
بعد انتهاء حقبة الرئيس ريغان جاء من بعده مباشرة رئيس جمهوري آخر وهو جورج بوش الأب، والذي اضطر إلى أن يواجه بعض الملفات التي لم يعالجها الرئيس ريغان مثل التحدي الإيراني في منطقة الخليج. فالحرب العراقية الإيرانية استمرت حتى انتهاء الفترة الرئاسية الثانية والأخيرة للرئيس ريغان. ولكن احتلال العراق للكويت في نهاية ذلك العام، ومع فوز الرئيس بوش غيّر أمور حرب الخليج الأولى، والتي أدت إلى خروج القوات العراقية من الكويت، ودفع أكثر من 300 ألف عامل فلسطيني وأردني إلى المملكة. وكذلك، فتحت الفرصة بعد ذلك لكي يقوم الرئيس بوش مع وزير خارجيته القوي آنذاك جيمس بيكر بفتح باب المفاوضات بين أربع جهات عربية، وهي الأردن وسورية ولبنان وفلسطين من ناحية، وإسرائيل من ناحية أخرى. والتي أسفرت عام 1993 عن اتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية وعن اتفاقية وادي عربة مع الأردن عام 1994، أي إبان فترة الرئيس الديمقراطي الجديد بيل كلينتون، لأن الرئيس بوش فشل في انتخابات عام 1992 في تجديد رئاسته لفترة ثانية.
وقد استمر الاقتصاد الأميركي إبان فترة الرئيس كلينتون في الدعوة إلى اقتصاد عالمي مفتوح وإلى تشبيك العالم، خاصة بعدما بدأت آفاق تكنولوجيا المعلومات الجديدة تستفيق، وبدأ العالم يطل على مراحل جديدة عجيبة من الروبوتكس والذكاء الاصطناعي ونمو أرباح شركات التكنولوجيا الإلكترونية. ولكن الرئيس كلينتون الذي سعى لتعزيز سيرته رئيساً للولايات المتحدة عن طريق تحقيق السلم بين الفلسطينيين والإسرائيليين لم يكلل بالنجاح بعد اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين عام 1995، وبعد صعود بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الوزارة الإسرائيلية عام 1996 وفشل شمعون بيريز كعادته في الفوز بالانتخابات التي قادها ضد حزب الليكود والأحزاب المتطرفة الأخرى في إسرائيل.
أما الرئيس جورج بوش الابن، والذي تأخر إعلان فوزه بالرئاسة حتى أعلنت ذلك محكمة العدل العليا الأميركية، فقد جاء وفي ذهنه الانتقام للولايات المتحدة وتأكيد نفوذها عن طريق غزو أفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003 خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001. وقد أدى ذلك إلى أضعاف الوطن العربي وإبراز دور إيران التي أصبحت العدو الأول لإسرائيل التي ردت على العداء على يد نتنياهو بعداء. ويبدو أن هذه العداوة حققت مكاسب للبلدين على حساب الدول العربية. ولكن كلا الحربين انتهتا بانسحاب القوات الأميركية من أفغانستان مكررة نفس الصور حينما غادر الجيش الأميركي هانوي وفيتنام. أما العراق فقد تحلل وأديرت موارده واقتصاده بشكل مدمر أدى إلى ما نراه عليه الحال في العراق اليوم، رغم ما تبذله السلطات فيها من جهود جبارة لرأب الصدع. وقد كانت فترة جورج بوش الابن مأساة كبرى للعراق.
ومن بعد الرئيس جورج بوش، فاز باراك أوباما بالانتخابات مما أشعل ثورة صامتة بين كثير من البيض في الولايات المتحدة، خاصة بعد فوزه مرة ثانية عام 2012. وقد شهدت فترة الرئيس أوباما صراعاً كبيراً على برنامج التأمين الصحي الذي جعله علامته الفارقة. وقد استمر أوباما في التمسك بالعالمية وبالحوار مع الروس والصين. ولكن بانتهاء فترة رئاسته، برز الفائز عام 2016 شخص جديد ورجل أعمال تشوب سمعته إشاعات كثيرة ويقول أشياء غير معدة سلفاً ومرتجلة، وكوّن حول نفسه دائرة من المحبين والموالين الذين يعتبرونه أستاذهم وضالتهم خاصة المسيحيين المتجددين وهو دونالد ترامب.
وقد بذل الرئيس ترامب في فترته الأولى جهده من أجل إعادة ترجيح الكفة الاقتصادية العالمية لصالح الولايات المتحدة. ولكن مهمته لم تكن سهلة كتلك التي تمتع به سلفه ريغان. فقد كانت الصين قد حققت إنجازات علمية كبيرة في مجالات الفضاء والطاقة البديلة والانتشار الدولي، وفي معدلات النمو. حتى إن اقتصادها تفوق على الاقتصاد الأميركي لو حسب على أساس القوة الشرائية التعادلية في الأسواق العالمية. وكذلك أبدت الصين عدم رغبتها في الاستمرار مزوداً للسلع الاستهلاكية بأسعار رخيصة. ومن هنا تحولت العلاقة بين الصين والولايات المتحدة من علاقة تكاملية إلى علاقة تنافسية في كل المجالات. ولهذا صار استهداف الصين واقتصادها جزءاً أساسياً من استراتيجية الولايات المتحدة لكي يستعيد اقتصادها ألقه العالمي السابق.
وكذلك رأينا أن روسيا هاجمت أوكرانيا بعدما ضمت شبه جزيرة القرم منها، ودخلت في حرب ما تزال مشتعلة منذ أكثر من ثلاث سنوات، ولم تعد تلقي بالاً للولايات المتحدة. فآثر الرئيس ترامب أن يهادنها ويتفاهم معها حتى لا تنضم إلى الصين أو أوروبا، ولكي يصل إلى تفاهمات معها حول مواردها المعدنية الضخمة.
ورأى ترامب أن أميركا التي ما عادت قادرة على التحكم في أسواق الاستهلاك في العالم يجب أن تعيد تلك الصناعات إلى الولايات المتحدة.
ولكنه وقتها كان قد أكد تقسيم الأدوار بين الولايات المتحدة بصفتها سوقاً وكل من المكسيك وكندا كمركزي إنتاج. ولذلك، هدد بفرض جمارك على البلدين، بل طالب بضم كندا إلى الولايات المتحدة. وفعل نفس الشيء مع غرينلاند الغنية بالمعادن النادرة ومع قناة بنما، علماً أن بنما قد منحت الصين عقد إدارة لها.
أما في الشرق الأوسط، فهو يعتقد أن فوائض النفط التي يجب أن تستثمر في تنويع القواعد الاقتصادية لدول الخليج، يجب أن توضع تحت تصرفه مقابل أنه حمى تلك الدول من أعدائها. وكذلك نراه الآن ينادي بنظام تجارة عالمي مقيد تتحكم فيه أهواء الولايات المتحدة وأهدافها.
هناك حملة شرسة على الرئيس الأميركي دونالد ترامب، واقتصادياته التي لا تقوم على مبرر نظري تستند إليه، بل هي أفكار لقنص الفرص التي يعتقد أنها متاحة. ولكنها ليست كذلك. لقد استعدى ترامب معظم دول العالم ضده، بينما استطاع ريغان وبسبب الظروف الممكنة له أن يكسب صداقة العالم.
أميركا التي تشكل حوالي ربع الاقتصاد العالمي لا تملك أكثر من ذلك حالياً في التأثير على القرارات الدولية. وهي صرخة بعيدة من أيام ريغان حين كانت 25% تمكن أميركا من التحكم في الاقتصاد العالمي كله. لا يوجد شيء اسمه "ترامبونوميكس" ولا يجوز أن نعطي أفكار الرئيس ترامب صفة المدرسة أو النظرية.
(العربي الجديد)