الكيان.. والمأزق الوجودي
محمود أبو هلال
جو 24 :
لم تكن حرب الإبادة على غزة حدثا عابرا في مسار الكيان الصهيوني، بل تحولت إلى أزمة عميقة تهدد وجوده ذاته. فقد انعكست آثار الحرب على بنية الكيان السياسية والعسكرية والاجتماعية، حتى باتت أزمته الوجودية حديث كتّاب وصحفيين وجنرالات إسرائيليين وغربيين.
على الصعيد العسكري، خاض الكيان أطول حرب في تاريخه من دون أهداف واضحة ولا إستراتيجية محددة، ما أدى إلى إنهاك قواته العاملة والاحتياط، واستنزاف قدراته بما يفوق كل الحروب السابقة. ورغم استدعاء مئات الآلاف من جنود الاحتياط، جاءت النتائج باهتة، فيما تراكمت الأعباء الاقتصادية والديون وأُغلقت شركات وهاجرت استثمارات، ليغدو مشروع الاحتلال والتوسع الذي يتحدث عنه نتنياهو ضربا من العبث.
إلى جانب ذلك، تفجرت الخلافات بين القيادة السياسية والعسكرية على نحو غير مسبوق. فالمؤسسة السياسية بدت تائهة بلا وجهة، فيما وُجهت للجيش الذي كان يُنظر إليه كـ"البقرة المقدسة"، اتهامات بالعجز والفشل، وسط إهانات علنية من رئيس الحكومة وحلفائه المتطرفين. وزادت الهوة اتساعًا بعد تهميش القيادة العسكرية وعزلها عن دائرة القرار، رغم الخسائر الهائلة التي تكبدتها في الميدان.
على المستوى الداخلي، انقسم المجتمع الإسرائيلي عموديا بين علمانيين ومتدينين، في مشهد يشبه انقسام مملكتي إسرائيل ويهوذا في التاريخ التوراتي. وزادت الكراهية المتبادلة بعد انقلاب حكومة نتنياهو على المحكمة العليا، ما أجج الشارع العلماني وأشعل احتجاجات واسعة ضد تجاهل مصير الأسرى. هذه الاحتجاجات، التي تواجه يوميا بعنف الشرطة واليمين، عمقت الشرخ المجتمعي وزادت من عزلة الحكومة.
وفي حين ظلت الحكومات الإسرائيلية السابقة حريصة على شن حروبها تحت غطاء "إجماع وطني" وموافقة المؤسسة الأمنية، فإن محاولة نتنياهو احتلال غزة جاءت بلا أي إجماع أو مصادقة مهنية، كما أشار الصحفي المخضرم بن كاسبيت. وهكذا تحولت الحرب إلى مقامرة سياسية خطيرة، يصفها بعض المحللين بأنها "لعبة من الجحيم".
ولم تقف الأزمة عند الداخل؛ فقد قادت سياسة التجويع والدمار الشامل بحق أكثر من مليوني إنسان في غزة إلى صدام مع النظام العالمي الذي رعى المشروع الصهيوني لعقود. فقد انكشفت السردية الإسرائيلية أمام الرأي العام الغربي، وتهاوت أساطير "الجيش الأخلاقي" و"دولة الديمقراطية الوحيدة" ليظهر وجه المشروع الاستيطاني الاستعماري ككيان يقوم على التطهير العرقي والإبادة.
خطاب بعض المحللين الأمنيين "الإسرائيليين" كشف بوضوح أن إسرائيل لم تحقق أي إنجاز بعد مئات الأيام من الحرب، بل خسرت صورتها الأخلاقية وردعها الإستراتيجي، بينما أثبتت المقاومة الفلسطينية قدرتها على الصمود والتجدد والقتال بروح لا يملكها الجيش الصهيوني. وكما قيل في تل أبيب نفسها "لا يمكن الانتصار على شعب يقاتل من أجل وجوده".
في ظل هذا الفشل، تتعمق عزلة الكيان الخارجية، فيما تتزايد المخاطر على تماسكه الداخلي. فقد بات المشروع الصهيوني رهينة أقلية دينية قومية متطرفة، تفرض رؤيتها الغيبية وتستغل نرجسية نتنياهو وخوفه من السجن بسبب قضايا الفساد، لتختطف القرار السياسي وتدفع بالكيان كله نحو المجهول.
الأخطر من ذلك أن العقد الاستيطاني الذي قامت عليه "إسرائيل" –بوصفها ملاذًا ليهود العالم– يتفكك اليوم؛ إذ تُرك الأسرى في غزة لمصيرهم وسط مشاهد صادمة هزت الرأي العام الإسرائيلي نفسه، حتى دفع ذلك بعض قادة المعارضة للاعتراف بأن "إسرائيل" ليست دولة أخلاقية، ولن تنتصر في هذه الحرب.
إن ما يعيشه الكيان اليوم هو صورة نموذجية لانحدار المشروعات الاستيطانية الإمبريالية. فالإبادة لا تستطيع أن تلغي وجود شعب، ولا أن تكسر مقاومته. وهكذا تتحول الحرب التي أرادها نتنياهو وسيلة لتغيير خرائط المنطقة إلى مأزق وجودي قد يسرع أفول المشروع الصهيوني نفسه.








