عبد الكريم الغرايبة فارس يترجّل
د. رحيّل الغرايبة
جو 24 : كنت أصاب بالدهشة من ذاكرة الرّجل، وحضوره الذهني، في كل مرة أقابله بها، مع أنه نيّف على التسعين عاماً، وقبل عدة أيام عندما زرته وهو يرقد على سرير الشفاء في العناية الحثيثة، وقد تم اجراء عملية جراحية في جمجمته، نظر اليّ مبتسماً هاشاً باشّاً، وكنت على علم أنه لا يعرف من يأتيه، وعندما سألته عن حاله بادرني بالسؤال: «ما أخبار زمزم»؟ فتيقنت أنه عرفني تماماً، وتيقنت أنه ما زال يتمتع بتلك الذاكرة الواعية، وسوف يتعافى قريباً بإذن الله، خاصة وأنه أخبرني أنه يريد أن يحدثني حول هذا الموضوع وهناك بعض الأفكار الضرورية في هذا السياق..
كنت أنتظر أن يشفى الشيخ المعلم تماماً، لأحظى بزيارته من أجل الاستماع إلى الأفكار الضرورية التي وعدني بها، وها أنذا أصدم صباح اليوم برحيله، دون أن أتمكن من وداعه، ودون أن أتمكن من سماع كلماته الأخيرة، وقد غمرتني سحابة داكنة من مشاعر الحزن تشبه تلك المشاعر التي أحسست بها عندما توفي والدي رحمه الله عن عمر مشابه.
رغم فارق السن بيني وبين الرجل، لكني كنت أشعر بالقرب والمؤانسة في اللقاء معه، وأشعر بالمتعة الزائدة بتبادل الحديث وفحص بعض المعلومات، وكان دائماً يقوم بتصحيح المعلومات المنشورة والمتداولة بين عامة الناس وطلبة العلم، وكنت في كل مرة أشعر أنني أمام كنز تاريخي مليء بالأسرار، وسجل دقيق بالأحداث الكثيرة على صعيد المنطقة والعالم، وكنت أتيقن بأن الرجل أمسك بأطراف الحكمة، وأدرك أسرار لعبة الأمم، ووصل إلى درجة الثقة واليقين، وأصبحت كلماته عبارة عن قواعد وكليات ومنطلقات استقرت في ذهنيته بعد اجراء عمليات تنقيب وبحث وفحص وتدقيق ومساءلة دائمة، تقوم على عدم الإعتراف بالمسلمات التاريخية والسياسية التي يتداولها العامة بشيء من القداسة.
كنت أسمع باسم الرجل والحديث عن جرأته في تناول القضايا والأحداث والشخصيات منذ كنت طفلاً صغيراً، وكنت أستمع بمتّعة لمناقشاته للرسائل العلمية في مدرجات الجامعة الأردنية عندما كنت طالباً فيها، حيث كان الحضور يتملكهم الضحك والدهشة من طريقة وقوفه على التوثيقات وفحصها وكشف المستور عنها بأسلوب علمي يجمع بين المحاكمة العقلية والمعلومات التاريخية الموثقة، ولم أكن أجرؤ على التعرف عليه أو الحديث إليه، فقد وُلدت بعد مرور سبعة أعوام على نيله شهادة الدكتوراة، وكنت أتمنى ذلك بكل تأكيد.
أشعر بالامتنان الذي لا انساه للأستاذ والعلامة الدكتور عبد الكريم الغرايبة عندما بادر هو بالإتصال بي، وطلب التعرف بي، ودعاني لأتناول طعام الغداء بصحبته، وسألني عن المطعم المفضل لدي، حيث كان هو يفضل تناول الطعام في ( المطعم الصيني) في شارع المدينة المنور، الذي دخلته لأول مرة في هذه المناسبة قبل ما يزيد على اثني عشر عاماً أو يزيد، ومن ثم أدمنت على زيارته في بيته، وكنت أتحين المناسبات لأحظى بلقائه، والاستماع إلى حديثه الموثق بالسنة والشهر واليوم والأشخاص والأماكن، بدقة وثقة لا يشوبها تشويش أو نسيان او اختلاط، وكان دائماً يدعوني إلى كل مناسبة ويهديني كتبه التي تعد ثمرة عقله وتفكيره، وبالإضافة إلى ما كان يغمرني فيه من العناية والاحترام الممزوج بالحب، لي ولشقيقي ابراهيم، حيث كان يتابع ما نكتب في الصحف باهتمام بالغ ويحاول مناقشتنا في بعض المعلومات من أجل القاء الضوء على بعض الحقائق الغائبة، وتصحيح بعض المواقف وتجليتها.
عبدالكريم الغرايبة هو نجل الرجل الوطني المعروف محمود الخالد الذي عاش نهاية حقبة الإمبراطورية التركية، وتشكل العالم العربي الحديث ، وتأسيس امارة شرق الأردن، وأراد لابنه عبد الكريم أن يسهم في بناء بلده من خلال العلم والمعرفة، حيث بذل جهده في تعليمه وحصوله على أعلى الشهادات، فقد استطاع الحصول على شهادة الدكتوراة في التاريخ من جامعة لندن عام (1950)، وقد تخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت، بعد أن استطاع أن يكون من العشرة الأوائل على مستوى المملكة في تعليمه الثانوي في مدرسة السلط المشهورة.
عبدالكريم غرايبة رجل وطني غيور، عروبي يؤمن بأن الاسلام هو الإطار الحضاري الواسع للأمة، وقد عرف نفسه في أحد امتحانات المقابلة : أنا عربي أردني حوراني. فقد العالم الاسلامي والعربي، وفقدت الأردن وأربد والمغيّر وعشيرة الغرايبة، عالماً مؤرخاً، ورجلاً وطنياً مجاهداً، بقي حتى الرمق الأخير وهو يبذل جهده في التنقيب والبحث والتوثيق، وسعى لإنشاء مركز توثيق للتاريخ الإسلامي، وختم حياته بهذا المشروع الذي ترك للأجيال اتمامه وإكماله من خلال مشروع وقفيّة عبد الكريم الغرايبة في جامعة العلوم الاسلامية العالمية ، برعاية رئيسها الدكتور عبد الناصر أبو البصل الذي لا ينكر جهده وفضله في هذا المشروع.
رحم الله الشيخ المعلم عبد الكريم الغرايبة رحمة واسعة، وغفر له وأسكنه فسيح جناته.
(الديتور)
كنت أنتظر أن يشفى الشيخ المعلم تماماً، لأحظى بزيارته من أجل الاستماع إلى الأفكار الضرورية التي وعدني بها، وها أنذا أصدم صباح اليوم برحيله، دون أن أتمكن من وداعه، ودون أن أتمكن من سماع كلماته الأخيرة، وقد غمرتني سحابة داكنة من مشاعر الحزن تشبه تلك المشاعر التي أحسست بها عندما توفي والدي رحمه الله عن عمر مشابه.
رغم فارق السن بيني وبين الرجل، لكني كنت أشعر بالقرب والمؤانسة في اللقاء معه، وأشعر بالمتعة الزائدة بتبادل الحديث وفحص بعض المعلومات، وكان دائماً يقوم بتصحيح المعلومات المنشورة والمتداولة بين عامة الناس وطلبة العلم، وكنت في كل مرة أشعر أنني أمام كنز تاريخي مليء بالأسرار، وسجل دقيق بالأحداث الكثيرة على صعيد المنطقة والعالم، وكنت أتيقن بأن الرجل أمسك بأطراف الحكمة، وأدرك أسرار لعبة الأمم، ووصل إلى درجة الثقة واليقين، وأصبحت كلماته عبارة عن قواعد وكليات ومنطلقات استقرت في ذهنيته بعد اجراء عمليات تنقيب وبحث وفحص وتدقيق ومساءلة دائمة، تقوم على عدم الإعتراف بالمسلمات التاريخية والسياسية التي يتداولها العامة بشيء من القداسة.
كنت أسمع باسم الرجل والحديث عن جرأته في تناول القضايا والأحداث والشخصيات منذ كنت طفلاً صغيراً، وكنت أستمع بمتّعة لمناقشاته للرسائل العلمية في مدرجات الجامعة الأردنية عندما كنت طالباً فيها، حيث كان الحضور يتملكهم الضحك والدهشة من طريقة وقوفه على التوثيقات وفحصها وكشف المستور عنها بأسلوب علمي يجمع بين المحاكمة العقلية والمعلومات التاريخية الموثقة، ولم أكن أجرؤ على التعرف عليه أو الحديث إليه، فقد وُلدت بعد مرور سبعة أعوام على نيله شهادة الدكتوراة، وكنت أتمنى ذلك بكل تأكيد.
أشعر بالامتنان الذي لا انساه للأستاذ والعلامة الدكتور عبد الكريم الغرايبة عندما بادر هو بالإتصال بي، وطلب التعرف بي، ودعاني لأتناول طعام الغداء بصحبته، وسألني عن المطعم المفضل لدي، حيث كان هو يفضل تناول الطعام في ( المطعم الصيني) في شارع المدينة المنور، الذي دخلته لأول مرة في هذه المناسبة قبل ما يزيد على اثني عشر عاماً أو يزيد، ومن ثم أدمنت على زيارته في بيته، وكنت أتحين المناسبات لأحظى بلقائه، والاستماع إلى حديثه الموثق بالسنة والشهر واليوم والأشخاص والأماكن، بدقة وثقة لا يشوبها تشويش أو نسيان او اختلاط، وكان دائماً يدعوني إلى كل مناسبة ويهديني كتبه التي تعد ثمرة عقله وتفكيره، وبالإضافة إلى ما كان يغمرني فيه من العناية والاحترام الممزوج بالحب، لي ولشقيقي ابراهيم، حيث كان يتابع ما نكتب في الصحف باهتمام بالغ ويحاول مناقشتنا في بعض المعلومات من أجل القاء الضوء على بعض الحقائق الغائبة، وتصحيح بعض المواقف وتجليتها.
عبدالكريم الغرايبة هو نجل الرجل الوطني المعروف محمود الخالد الذي عاش نهاية حقبة الإمبراطورية التركية، وتشكل العالم العربي الحديث ، وتأسيس امارة شرق الأردن، وأراد لابنه عبد الكريم أن يسهم في بناء بلده من خلال العلم والمعرفة، حيث بذل جهده في تعليمه وحصوله على أعلى الشهادات، فقد استطاع الحصول على شهادة الدكتوراة في التاريخ من جامعة لندن عام (1950)، وقد تخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت، بعد أن استطاع أن يكون من العشرة الأوائل على مستوى المملكة في تعليمه الثانوي في مدرسة السلط المشهورة.
عبدالكريم غرايبة رجل وطني غيور، عروبي يؤمن بأن الاسلام هو الإطار الحضاري الواسع للأمة، وقد عرف نفسه في أحد امتحانات المقابلة : أنا عربي أردني حوراني. فقد العالم الاسلامي والعربي، وفقدت الأردن وأربد والمغيّر وعشيرة الغرايبة، عالماً مؤرخاً، ورجلاً وطنياً مجاهداً، بقي حتى الرمق الأخير وهو يبذل جهده في التنقيب والبحث والتوثيق، وسعى لإنشاء مركز توثيق للتاريخ الإسلامي، وختم حياته بهذا المشروع الذي ترك للأجيال اتمامه وإكماله من خلال مشروع وقفيّة عبد الكريم الغرايبة في جامعة العلوم الاسلامية العالمية ، برعاية رئيسها الدكتور عبد الناصر أبو البصل الذي لا ينكر جهده وفضله في هذا المشروع.
رحم الله الشيخ المعلم عبد الكريم الغرايبة رحمة واسعة، وغفر له وأسكنه فسيح جناته.
(الديتور)