ما الذي أوصلنا لهذه الحال؟
لم يعد بالإمكان السيطرة على المدى الذي تصل إليه الاحتجاجات المطلبية، فالاحتجاج يقف عند حدوده الطبيعية في بعض الأحيان، وقد يتجاوز ذلك ليصبح قضية رأي عام تحمل شعارات سياسية بسقوف مرتفعة.
منذ بدء الحراك بلغ عدد الاعتصامات المطلبية مستوى قياسيا، وكانت المسألة ملفتة لكنها غير مقلقة، إلا حينما تطور عددها ومضمونها، وارتفع مدى العنف الذي تجلبه معها ومحاولات التجاوز على القانون وسيادته.
بقاء الناس في الشارع لن يحل المشكلة، بل يزيدها تعقيدا خصوصا أن صبغة الاحتجاجات تأخذ طابعا سياسيا مع مرور الوقت، خصوصا حينما يظن الناس أن الحكومات لا تكترث لمطالبهم. وتصلهم رسائل من الضفة الأخرى تؤكد أن الحكومات غير آبهة بمطالبهم وأنهم مجرد أصوات تخرج من هنا وهناك، ولا تؤثر بدون بذل جهود حقيقية لحل مشكلاتهم.
واليوم تطورت الاحتجاجات المطلبية وصارت لها مواصفات مختلفة، أفرزتها حالة الاستفزاز التي يعيشها المجتمع بسبب سياسات الحكومات التي أخفقت في التعاطي مع مشاكله الخدماتية والحياتية، وسط تساؤل شعبي محبوس ومتكرر، أين ذهبت الأموال وعلى ماذا أنفقوها؟.
الحكومات لم تكلف نفسها عناء تقديم الإجابة حتى بات الجواب جاهزا ومعروفا لدى كثيرين يؤمنون اليوم أن الحكومات أضاعت المال أو نهبته، ما فاقم الوضع سوءا.
ما حصل خطير، وتسبب بفقدان الثقة بالمؤسسات، ووصل حد الاحتمال أقصاه حتى خرج المجتمع عن صمته، وبدأت ردود الأفعال تتوالى على كل صغيرة وكبيرة، حتى صارت مشاكل قديمة جديدة تثير حساسيته لدرجة تخرجه عن طوره وعن طباعه الحقيقية.
بالضرورة انعكس المزاج العام على كثير من الملفات؛ إذ ما معنى أن يصبح نقص المياه في الكرك قصة كبيرة وتغلق المدينة لساعات، وهي مشكلة طالما عانى منها الأردن وتجرع مراراتها المواطن، لتصبح مشكلات خدمية بحتة سببا للعنف والاحتجاج ورفع شعارات سياسية، لدى شرائح من المجتمع طالما كانت الحليف الرئيس للدولة.
اقرب تفسير لهذه المشكلة التي اقتربت من مستوى الظاهرة هو عدم المبالاة الرسمية والحكومية وتقصيرها في حل كثير من المشاكل حتى صرنا نسمع باحتجاجات بأثر رجعي على قرارات أخذت منذ سنوات طويلة ومنها الواجهات العشائرية.
فقدان الثقة والقناعة الراسخة لدى المجتمع بأن السلطات غير مؤتمنة على مصالحه وغير حريصة عليه هي ما أوصل الحال إلى هذه الدرجة من التردي، وضاعف الأثر حالة المماطلة الرسمية في ملف الإصلاح التي بدأت منذ العام 2010 ومستمرة لغاية الآن.
الخطير في مسألة الاحتجاج أن الوعي العميق للمواطن بالدولة مرتبط مع أعلى سلم السلطات، فالحلول بالعادة تقدم من رأس الهرم تعويضا عن تقصير السلطات وتحديدا التنفيذية والتشريعية، ما جعل الملك يحمل وزر تقصير الحكومات وتقاعسها، وإخلالها بالمهمات المطلوبة منها.
إعادة الأمور إلى نصابها ووقف النزف الحاصل بحاجة إلى قرار سياسي يعيد ترتيب أوضاع السلطات ويفصل بينها، وبداية الحل قانون انتخاب توافقي، يفرز مجلس نواب بمواصفات مختلفة، ويساعد بتشكيل حكومات منتخبة تكون حريصة على الملك والمجتمع.
استمرار حالة الإنكار التي تعيشها مراكز صنع القرار لخطورة المرحلة لن يحل المشكلة، والوصفة تكمن في إصلاح سياسي حقيقي وليس أنصاف الحلول ولا يجوز تقديم الإصلاح على انه هبة، فهو إنقاذ للدولة والمجتمع في آن.
لفت الانتباه الى التطور الذي لحق بالاحتجاجات المطلبية ضرورة، خصوصا أن التركيز الرسمي منصبّ على الأحزاب والقوى السياسية، والاحتجاج على نقص المياه يكون في بعض الأحيان أخطر من تراجع الديمقراطية.
(الغد)