مفاهيم الحرية في زمن دعاة الإصلاح ....
أن تقول رأياً وتؤمن بأنّه الأصوب فأنت ترتكب حماقة لا يغفرها لك شخص يمتلك أقلّ أبجديات الوعي، لكن أن تطرح رأيك، وتقبل النقاش حوله فتصغي للمخالف، وتأخذ ما عنده، وتعلي من طرحه، وتردّ عليه بأدب جمّ، وطرح مقنع، دون تعصُّب أو استفزاز أو تسفيه، فأنت تقدِّم له عقلك قبل نقلك، وتزرع ثقتك فيه، وتمنح رأيك مشروعيّة لديه.. لكن، ومن خلال المتابعة الدؤوبة لما يُتَداول اليوم من بعض من يطلقون على أنفسهم (دعاة الإصلاح)، ومن خلال ما يقدمونه من أفكار وآراء وأطروحات، وما يُتْبعون به أفكارهم تلك من نقاشات وحوارات، تصل في بعضها إلى سجالات، يمقتها الرجل العادي، وتعافها المرأة البسيطة، فكيف بمن يمتلك الوعي والمنطق والقدرة على التحليل، نجد ترسيخاً للتشتت؟!
كلّ تلك الأطروحات تقود أصحابها إلى حالة من التأزم، والسبب أنّ آراءهم تلك تُلفَظ، وتسفَّه، ويُسخر منها، ومن أصحابها؛ لأنّه لا يوجد رقيب يمنع المعترضين، ولا خجل يتوارون خلفه!
مشكلة دعاة الإصلاح لدينا اليوم أنّ كلّ شخص أصبح اليوم يملك وسيلة ما للتعبير عن رأيه، ومع الوسيلة يعتقد كلّ شخص أنّ قوله الحقّ، ورأيه لا يمكن تخطئته؛ ولذلك فهو مصلح عند نفسه!
لم يعد سهلاً في هذا الزمن أن تكون صاحب رأي مستقل، يكفي أنك تقرأ جلّ الأحداث وأنت لا تملك الاستقلال ولا تستطيع الانفصال المطلق عن آراء الآخرين، ومع ذلك يجاهد كل شخص منا في أن يكون له رأي في شأن يعنيه أو أمر يعني له شيئاً في هذه الحياة!
أكثر شيء يدغدغ مشاعر الناس اليوم هو الحرية، لكنها تختلف في رؤيتها من شخص إلى آخر، بحسب الأجواء ومتطلبات الحياة لكل شخص. مشكلتنا الكبرى أن مفاهيم الحرية تخضع لمتطلبات ترتفع وتنخفض بحسب المتغيرات السياسية في هذا العالم، ووفق مفاهيم الناس ترتفع المطالب وتتعدد.. ومع تلك التعددية يفقد الناس أولويات الحياة، وتنتصر الفوضى، ويعلو صوت الباطل -وإن تدثَّر بلباس الحق - ويحدث الشتات المفضي إلى اللاشيء - وإن قاده مصلح أو واعظ أو مثقف - ويكثر فيه النفاق - وإن دفع به إلى النور ثقة -!
ليست مشكلتنا في الأفكار؛ فهي كثيرة، وقادرة على العيش، وليست مشكلتنا في الدافعين بها إلى النور؛ فهناك كثيرون يمكنهم أن يفعلوا دون تردد، وليست مشكلتنا في الأرضية التي تقبل بأن تكون عليها؛ فهناك أراضٍ كثيرة تقبل أن تعيش النباتات الصالحة عليها، مشكلتنا - بحسب اعتقادي - في النوايا الصادقة والطيبة والمخلصة التي تحتوي كل هذه الأفكار، أو تلك التي يسعى أصحابها إلى تصديرها تحت مظلّة الحقّ والعدل والمساواة!