الإصلاح.. وحيوية النظام
الدول والمجتمعات كالإنسان -حسب رأي ابن خلدون- تمر في أطوار متشابهة من مرحلة التأسيس والبدايات غير المكتملة إلى مرحلة القوة والاستقرار والازدهار، فالضعف والعجز، والإنسان في القرآن الكريم يمر بمرحلتي ضعف بينهما مرحلة قوة (والله خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة). ولكن مرحلتي الضعف غير متشابهتين في مآلاتهما؛ فالأولى تفضي إلى نماء متدرج ثم إلى استواء القوة، وأما الثانية فتسلم إلى شيبة وشيخوخة ثم إلى فناء. فمرحلة القوة في كل الكيانات البشرية الفردية والجمعية، تتسم بالقدرة على الاستيعاب والتطور والابداع، والاستفادة من معطيات الحياة الحضارية، وتظهر فيها العافية، وتزدهر فيها حركة التغيير والإصلاح، وتبدو على درجة عالية من الحيوية، تبعث الأمل وتفجر الطاقات وتعمق الثقة بالمستقبل، ثم تبدأ بالتراجع التدريجي، وتسير في اتجاه معاكس لقوانين التقدم والعمران، ويتفشى فيها الترف والفساد، ولا تنتفع بالمضادات الحيوية في مقاومة الأمراض وتدعيم المناعة، فما دامت قادرة على إصلاح مواقعها وحمايته من غوائل الفساد، وما دامت حامية لكرامة الإنسان وحريته، وصائنة لقيمه النبيلة وأخلاقياته الرفيعة، فستتمكن من تجاوز ما يعتريها من ضعف والتجديد في وجودها. والهلاك الذي يصيب الأمم والمجتمعات تسبقه مقدمات، وتتمكن في أرضه أسباب من صنع الناس الذين يغيب فيهم الإصلاح (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون). والأنظمة السياسية هي جزء من بناء المجتمع، وركن من أركان الدولة الأساسية، يصيبها ما يصيب المجتمع، فتنتقل من طور إلى آخر، ومن حال إلى أخرى، فاستجابة النظام السياسي للإصلاح دليل عافية وحيوية، وأمان بقائه واستمراره؛ بشرط أن يكون هذا الإصلاح هو الذي يتطلع إليه الشعب وينشده، والذي هو ضرورة لا خياراً وحاجةً لا ترفاً. إن هذه الاستجابة تؤكد:
1- حيوية النظام وقدرته على الاستيعاب والتكيف والسير نحو المستقبل.
2- أنه شريك في عملية التغيير وإعادة البناء.
3- أن الناس لا يريدون إسقاطه أو استبداله، وإنما يريدون استمراره مع الإصلاح والتطوير.
4- أن عمليات الإصلاح ستسير بشكل متدرج وآمن، يحفظ الإنجازات، ويبني على ما سبق، ويتم التغيير والتجديد بأقل الكلف. 5- وجود شراكة حقيقة تفسح الواقع أمام المجتمع وقواه الحية وتستوعب كل المخلصين بكفاءاتهم المتنوعة.
6- توليد قوة دفع جديدة في كيان الدولة، لتنتقل بها إلى مستويات أكثر تقدماً وكمالاً.
إن الالتفاف على الإصلاح، والعمل على إجهاض جهود الساعين فيه، وتعطيل حركته، وتشويه صورة القوى الإصلاحية، والدفع باتجاه معاكس لهذه الحركة، يعني أن النظام لا يتمتع بالحيوية المطلوبة، ويضيف عوامل أخرى تزيد الاحتقان الشعبي، وتضيق فسحة الأمل، وتعمق الخوف على المستقبل وأزمة الثقة، وتحفز إرادة الناس وتصلب رفضهم، وبخاصة عندما يتعمق وعيهم ويتسع، ويتعاظم اصرارهم وتمسكهم بحقوقهم وأولها مصدرية السلطة.
إن المتعمق في واقعنا يرى فعاليات وقوى ومراكز قرار ونفوذ لم تقرأ مرحلة التحولات في المنطقة العربية بعمق، فضلاً عن أنها لم تقرأ باسم ربها الذي خلق لتدرك على هدي من هذه القراءة حقيقة السنن وضخامة التغيير الذي حصل وبعد أغواره، فتعود إلى اتباع أساليب بائدة، وأدوات عفا عليها الزمن، وأفكار أثبت الزمن وحركة الحياة تخلفها، وربما لا يستيقظ هؤلاء إلا بعد فوات الأوان؛ حيث أصبحت هذه القوى والأفكار والأدوات خارج التاريخ، ولا تملك إلا إمكانات تكريس العجز، وتبرير الفشل، وحماية الفساد، والهوان أمام العدو، وهي بعلم أو بجهل تدفع الأوضاع نحو مزيد من التدهول الخسارة، ولات حين مندم.
(السبيل)