نصف قرن من الصحافة
هل يمكننا ونحن نقرأ " الدستور " أن نتصور أنها في الخمسين من عمرها ..؟ نصف قرن من ذاكرة الوطن في زمن أردني استثنائي ، عرفنا فيه مفاصل الفرح والعطاء والألم ، تحول الوطن وتغير ونحن معه ، وكانت معنا " الدستور " توثق للوطن ولنا كلنا ، وتحفظ ذاكرتنا الوطنية ولا تغفل عن ذاكرة الوطن العربي الكبير والعالم كله ، ونحن الكتاب الذين كبرنا مع الدستور ونشرنا فيها فكرنا ونبضات قلوبنا وبداياتنا القصصية والشعرية ، نعرف أنها كانت لنا المنبر السخي الذي منحنا الكثير ولم يأخذ منا ، فلكل كاتب منا قصته مع الدستور ، هذه الذكرى استوقفتني وجعلتني أراجع ذاكرتي الأدبية والصحفية ، وهو ما يجب على الدستور أن تفعله في زمن ما ، أن تستدرجنا لنكتب ذاكرتنا معها ، فقد شهدت مطابع الدستور عام 1982 م ميلاد أول مجموعة قصصية لي ، كنت أحس بأنني في عالم آخر وأنا أصر على الدخول إلى المطابع وأرى الحروف تتحول إلى مجموعتي الأولى ( شقوق في كف خضرة ) والتي طبعتها رابطة الكتاب الأردنيين ..فرحة العمر الأولى وفرحة النشر الطازجة في أول العمر تبدأ من هنا ، وللمفارقة ، فإنني تحولت في هذا العام إلى كاتبة لعمود صحفي في الدستور ، وتحديدا بزاوية " مع الحياة والناس " وهي الزاوية الرئيسة على الصفحة الأخيرة من الدستور ..! هكذا وبلا ترتيب جاءني القاص المرحوم خليل السواحرى الذي كان يتبنى الكتاب الجدد ، زارني بمنزلي وقال لي :
- أنقل لك دعوة رئيس التحرير الأستاذ عبد السلام الطراونة للكتابة في زاوية " مع الحياة والناس " ..!
طبعا ، تطلعت إليه بدهشة ، وقلت بخوف :
- لكنني لست كاتبة مقال .. لدي تجاربي في الشعر والقصة القصيرة .. لا يمكنني أن أبدأ هذه التجربة في زاوية رئيسة ..هذه مغامرة ..!
قال خليل بثقة عجيبة لا أتفهمها :
- اسمعيني أنت كاتبة مقال بنفس الدرجة التي تكتبين فيها القصة والقصيدة ..أنتظر مقالتك الأولى ، وقد خصصنا لك يوم الأربعاء ..ستنجحين ..!
وانتهى ، بدأت ، طبعا دفعني اهتمام القراء للثقة بالنفس ، وأحسست بأن الدستور أعطتني منبرا جديدا وأنا في بداياتي ، كنت أكتب مقالات ناقدة وأستخدم لغتي التي تدربت على السرد في تقديم مقالة جميلة تستعير لغة الكاتبة الإبداعية لتمتع القارئ ، لم تكن مقالاتي جافة ، لكنها كانت مؤثرة لأنها تناولت التعليم والجامعات والفقر والبلديات .. اندفعت وشرعت لي الدستور أبوابها ، وصرت كاتبة مقالة إلى جانب كتابتي للقصة القصيرة والبحث التاريخي لاحقا .
من هنا بدأت ، وأخذتني الحياة الأكاديمية ، كتبت العديد من الكتب ، وكتبت في " الرأي " استضافتني الرأي بزاوية " أوراق " لعشر سنوات ، وكتبت زوايا توثيقية هناك " ذاكرة الوطن " لعام ونصف و” أوراق الأجداد "و أردني في المكسيك " ..كل هذا بدأ بمقالة واحدة في منبر غال علي " مع الحياة والناس " ومنذ عام 2008 م عدت للزاوية نفسها ، وها أنا حتى الآن أستعيد دهشة اللحظة الأولى التي رأيت فيها أول مجموعة قصصية لي في مطابع الدستور ، وأول مقالة لي في الدستور كرستني كاتبة مقالة ..فيا لها من ذاكرة تبعث الرعشة في الروح .
يوبيلكم مبارك أيها الزملاء ، والمحبة الصادقة لكل من يحب القلم وأصحابه ويمنحهم مساحة ينشرون من خلالها فكرهم وإبداعهم ، وصباح سعيد يا "دستور " مع بداية نصف القرن القادم .