التفريط بالدولة ..
لا يمكن للمرء أن يتصور كيف يتم بناء الدول إلا إذا درس ذلك البناء لبنة لبنة من خلال المصادر والمراجع والوثائقيات وأدبيات المرحلة ، ومن يدرس التاريخ ويكتبه يعرف ما أقصده بالتأكيد ، لقد انتهيت هذا الأسبوع من كتاب جديد تناولت فيه تاريخ الأردن في العهد العثماني وعهد الحكومة العربية الفيصلية والمملكة السورية ثم مرحلة الحكومات المحلية وأخيرا نشوء إمارة الشرق العربية وتوقفت فيه عند الاستقلال الأول عام 1923 م ، وكان مصدري الواسع هو صحافة القرن التاسع عشر الميلادي والربع الأول من القرن العشرين ..! لا يمكنني أن أصدق رحابة الأبواب التي فتحتها لي الصحافة برصدها لكل الأمكنة ونواحي الحياة والتفاصيل اليومية والإدارية وعلاقات الدولة بأهالي المنطقة .. حتى أنني فتحت باب الصحافة في المهجر، وتبين لي أننا بحاجة إلى أعمار لنكتب تاريخ هذه المنطقة المدهشة التي تم تهميشها طويلا في الدراسات التاريخية .
الآن فقط عرفت معنى أن يبنى العرب عام 1918 م دولتهم – الحلم ويجعلوا دمشق ( وآه وألف آه يا دمشق ..!)
يجعلوها عاصمتهم أسوة ببني أمية ، والآن فقط عرفت وأنا أتابع بناء الإمارة معنى أن يكون لنا كيان ودولة ، وتابعت البناة من الأجداد قادة ومواطنين وهم يبنون المؤسسات ، وقرأت كيف جمع الأهالي في السلط « معونة « للدولة لتفتح لهم مدرسة ثانوية ، وكيف بني أبناء القرى غرف المدارس بالأشجار التي قطعوها من الأحراش بأيديهم .. وكيف بنت الدولة أول مدرسة صناعية بعمان .. لم يكن لدينا جامعات ولكن كان لدينا مدارس أهم من الجامعات وأكثر التزاما بالمواطنة .. كانوا لا يملكون القصور والمسابح الخاصة في بيوتهم ، وكانت الشوارع ترابية ، وكانت رواتبهم بالقروش ، وكانوا يحملون الأعلام العربية ويهتفون « تحيا سورية ويحيا الاستقلال « لم يستقووا بغير الوطن ..!وحققوا معجزة بمعايير ذلك الزمان ، نعم معجزة بناء دولة بلا إمكانات ولا موازنات .. دولة يحلم الأهالي فيها ويحققون أحلامهم ويحبونها بفقرها وجوعها وبلا حدود ..!
الحق أقول لكم بأننا فاسدون حتى العظم ، فكيف نسمح بالخراب ونفرط بالدولة ..؟ كيف نفرط بالأمن ونحن نرى النار تلتهم كل الحواضر العربية العظيمة بدءا ببغداد ومرورا بالقاهرة وانتهاء بدمشق ، وأقول بأن من يستهين بهذا الكيان جاهل وأننا لن نفرط بحلم الأجداد وعرقهم ، وأننا ونحن ندافع عن هذه الدولة لا ندافع عن الهاشميين ،هم حققوا معنا هذا الإنجاز وهو كبير وكبير جدا .. من يفرط بالدولة يسعى إلى الانتحار ، وبعد أن قرأت وكتبت عن هذه البقعة الطيبة والتي اعتادت على العطاء واحتواء العرب في كل ملماتهم ، أقول بأن من يفرط ببنائنا المؤسسي لا يستحق نعمة الوطن ولا الأمن ولا دفء المواطنة ، وبأن علينا كلنا أن نحافظ بالنار والحديد على حلم أجدادنا وعرقهم وتعب جباههم ، وليذهب المخربون إلى الجحيم ...!
(الدستور)