كفى عبثًا بالدستور ..
مشروع التعديلات الدستورية الجديدة الذي استدعيت الحكومة لإقراره على عجل يضاف إلى ما سبقه من عبث بالمبادئ التي يستند إليها الدستور الاردني ولنظام الحكم السياسي للملكة القائم على النظام النيابي الملكي الوراثي.
هذه التعديلات تعطي للملك صلاحيات منفردة بتعيين رئيس وأعضاء مجلس الاعيان ورئيس وأعضاء المحكمة الدستورية ورئيس المجلس القضائي ومدير الدرك، بالإضافة إلى صلاحياته المنفردة بتعيين رئيس هيئة الأركان المشتركة ومدير المخابرات العامة بموجب التعديلات التي أقرّت عام 2014.
كما قلنا في سياق تلك التعديلات السسابقة، فإن هذه الأفعال بالإضافة لكونها تشكل توريطاً غير بريء للملك وللملكية في الأردن، قد تؤدي الى إظهار الملك مسؤولاً أمام الشعب عن أية اخطاء ترتكبها تلك الجهات، وهذا يخالف مكانة الملك الدستورية باعتباره رأس الدولة وليس رئيسا للسلطات بل الحكم فيما بينها. فما هي المصلحة من أن يتنازل الملك عن تلك المكانة الأعلى ليصبح لاعباً، مع كل ما يترتب على ذلك من آثار خطيرة على المؤسسة الملكية التي من المفترض أن تكون رمزًا لوحدة الأمة وكرامتها؟
هذه التعديلات تُشكل ضربة للنظام البرلماني الذي يستند إليه دستور المملكة، القائم على مبدأ أن الأمة هي مصدر السلطات وأن الملك مصون من كل تبعة ومسؤولية وأن أوامره الشفوية أو الخطية لا تعفي الوزراء من مسؤوليتهم. فالحكومة هي التي تغطّي مسؤولية الملك أمام مجلس النواب، وتتحمل مسؤولية كافة أعمال السلطة التنفيذية بما في ذلك الحساب والعقاب، لأن الملك الدستوري لا يخطئ، وبالتالي لا تجوز محاسبته، ولذلك جاءت المادة 40 من الدستور بممارسة الملك لصلاحياته من خلال إرادة ملكية يجب أن تكون موقعة من رئيس الوزراء أو الوزير أو الوزراء المختصين، بحيث ينحصر دور الملك بتثبيت توقيعه فوق تواقيع المذكورين.
السلطة التشريعية بموجب الدستور تناط بمجلس الأمة والملك، ومجلس الأمة يتكون من مجلسي الأعيان والنواب، بالتالي عند تطبيق المادة 40 أعلاه على النص الدستوري الذي يمنح الملك صلاحية تعيين رئيس وأعضاء مجلس الاعيان، نجد أنها تشكل تطبيقًا لقاعدة أن الأمة مصدر السلطات، كيف؟ لأن الملك يمارس صلاحياته من خلال إرادة ملكية يجب أن تكون موقعة من مجلس الوزراء، أي أن القرار يصدر فعليًا عن الحكومة ويسبغ الملك إرادته عليه لمنحه الرمزية بما تعنيه تلك الإرادة من ثقة يمنحها رأس الدولة كالمباركة. بالتالي طالما أن الحكومة لا تمارس أعمالها إلا بموافقة أغلبية النواب ممثلي الشعب، بل والأصل أنها حكومة أغلبية نيابية، يكون الشعب قد اختار بشكل غير مباشر أعضاء مجلس الأعيان. والغاية من ذلك لتلافي ما قد ينتج عن عملية الاختيار المباشر في الانتخابات من إمكانية غياب كفاءات ضرورية للقيام بمهام التشريع المناطة بمجلس الأمة.
وكذلك الحال بالنسبة للسلطة القضائية، إذ نص الدستور على أنها مستقلة تتولاها المحاكم على اختلاف انواعها ودرجاتها وتصدر جميع الأحكام وفق القانون باسم الملك.
أما مدير المخابرات والجيش والدرك فهم موظفون تابعون للحكومة بصفتها صاحبة الولاية العامة في إدارة جميع شؤون الدولة الداخلية والخارجية، وهي بالتالي مسؤولة عن أعمالهم.
هذه النصوص لم تأت اعتباطًا، بل هي نتاج نظريات فقهية ودستورية وتجارب الشعوب لمئات السنين، والهدف منها تطبيق قاعدة قانونية ودستورية ومنطقية هي قاعدة تلازم السلطة والمسؤولية، وهذا بالنتيجة يشكل حماية للملك.
بالتالي فإنالقول أن التعديلات الدستورية الأخيرةتمت من إجل تعزيز الفصل بين السلطات غير صحيح، بل نحن نتوجه لنظام تتركز فيه الصلاحيات بيد جهة واحدة يمنع الدستور مساءلتها فيسقط تلقائياً مبدأ أن الشعب مصدر السلطات ويتهاوي مبدأ النظام النيابي من أساسه.
صحيح أن واقع الحال اليوم في الأردن أن الملك هو الذي يعين مدير المخابرات ورئيس هيئة الأركان المشتركة بإرادته المنفردة، وكذلك الحال بالنسبة لمدير الدرك ورئيس وأعضاء مجلس الأعيان ورئيس السلطة القضائية، وينحصر دور النسور وأمثاله من كبار الموظفين برتب رؤساء حكومات بالتوقيع بلا دور حقيقي باتخاذ القرار. إلا أن استمرار الشكل الدستوري الأصلي على الأقل ضروري للحفاظ على الدستور من العبث كما يشكل تطبيقا لقاعدة تلازم السلطة والمسؤولية، فلا يوجد نظام في العالم يعفي من منحه الدستور صلاحية الانفراد باتخاذ القرار من مسؤولية أعماله وقراراته.
إن هذا العبث بالدستور معيب لبلد عرف النظام البرلماني منذ أوائل الخمسينيات، وهؤلاء العابثين بالدستور الأردني هم بالضرورة ضد البلد والملك والدستور. وما هو مطلوب الآن وقفة من كل الحريصين على النظام النيابي الملكي الوراثي وكل الحريصين على المؤسسة الملكية كي يضغطوا لوقف هذا الخرق الدستوري الذي يرقى لجريمة تقويض نظام الحكم السياسي للمملكة.