تركيا وسوريا، إستدارة كاملة أم مقاربة جديدة؟!!
زيد محمد النوايسة
جو 24 :
لا يمكن إنكار أن الانقلاب الفاشل قبل أسبوعين في تركيا، جاء في ظروف سياسية معقدة هي الأصعب منذ أن بدأت مسيرة حزب التنمية والعدالة قبل ما يقارب العقد ونصف وفي ذروة الصعود السياسي والنجومية للزعيم التركي رجب طيب أردوغان الذي أخذ على عاتقه قيادة مشروع الأسلام السياسي توطئة لقيادة تركيا العالم الإسلامي ولعب دور مركزي ومؤثر في العالم العربي وتقديم الحزب وأفكاره كمشروع اسلامي معتدل وكحركة أسلامية منفتحة على العالم تستند لحركة الأخوان المسلمين التي كانت دخلت في توافقات مع الولايات المتحدة مبكراً وما قبل الربيع العربي توجت لاحقا بوصول الأخوان المسلمين للسلطة في مصر وأن كان عبر الصناديق، بالإضافة لتبني عقيدة زميله ومنظر الحزب أحمد داود أوغلو سياسة تصفير المشاكل داخلياً؛ ليجد اليوم نفسه في بحر متلاطم من المشاكل والإخفاقات في كل الملفات الداخلية والإقليمية والدولية، بدءاً من الحرب ضد حزب العمال الكردستاني داخل تركيا وعلى الحدود، والعمليات الإرهابية التي تبنتها عصابة داعش الإرهابية التي اعتبرت تركيا ممراً لعبور المقاتلين ومركزا لوجستيا ومالياً اساسياً لها، والخلافات مع الأحزاب الكردية ووسائل الاعلام ؛ وعلى الصعيد الإقليمي فشل كل الخيارات التركية في تحقيق اختراق في الملف السوري من خلال إيجاد منطقة عازلة مدعوما أمريكيا بل أنها فتحت عليها الملف الكردي في الشمال السوري وانقلاب الحليف الأمريكي عليها بدعم ما يسمى قوات سوريا الديمقراطية، وتراجع فرص انضمامها للاتحاد الأوروبي لدرجة انعدامها على ما يبدو اليوم ، واضطرار تركيا للاعتذار من روسيا وإعادة التنسيق مع إسرائيل وتعزيز العلاقات مع طهران والاشارة الواضحة من بن علي يلدريم أن تركيا تسعى لإعادة العلاقات مع الجوار الإقليمي.
السياسة التركية المتشددة في الملف سوريا ومستقبل الرئيس الأسد والذي أوغلت في العداء له وسعت جاهدة لإطالة الأزمة المعقدة هناك بدعمها الهائل منذ بدء الصراع للتنظيمات المسلحة بالسلاح والمقاتلين وتوفير النافذة السياسية لهم بالتعاون مع القطريين والسعوديين وأن تقاطعت مقاربة تركيا واختلفت مع السعوديين وتحديداً في موضوع الأخوان المسلمين والموقف من مصر؛ ذلك ان القيادة السعودية داعم أساسي لخصم تركيا الأهم اليوم وهو نظام الرئيس السيسي لأن المؤهل إقليمياً لتعبئة الفراغ من المنظور الأمريكي هو مصر لأنها تحمل كل المقومات الاستراتيجية؛ فتركيا اليوم تحتضن قيادات الاخوان المصرية الهاربة وتوفر منبرا اعلامياً لهم وتعتبر الداعم الإقليمي الأهم لتيار خالد مشعل في حماس بالتنسيق مع قطر وهو أمر غير مرحب به لدى السعوديين على ما يبدو، استغلت تركيا الهدنة في حلب قبل اشهر وسمحت بتمرير الاف الاطنان من الأسلحة التي مولت أمريكيا وعربياً والواردة من أوروبا الشرقية لإعادة التوازن عسكرياً بعد تقدم القوات النظامية السورية مدعومة بالحلفاء الروس والإيرانيين وحزب الله في ريف حلب الجنوبي والشمالي ولكنها فشلت لاحقاً في أحداث تراجع في تقدم القوات النظامية السورية؛ واليوم تشير الأخبار الواردة من حلب أنها فرضت حصاراً كاملاً على مقاتلي جبهة النصرة وجيش الفتح وقوات نور الدين زنكي في المناطق الشرقية بعد سيطرتها على المعبر الأهم نحو الريف الحلبي وصولاً لقطع منفذهم للحدود التركية؛ الأمر الذي يشير الى ان القيادة السورية استغلت الانكفاءة التركية نحو المشاكل الداخلية التي تتعمق يومياً ولا أحد يملك تصور دقيق لمآلاتها المستقبلية ولا سيما بعد هذا الحجم الهائل من الاعتقالات وحملات التطهير الممنهج ضد ما يسمى الكيان الموازي في كل مفاصل الدولة التركية؛ بتوجيه ضربات استراتيجية للمعارضة العسكرية التي تجد نفسها اليوم في أصعب موقف منذ اندلاع النزاع في شمال سوريا، فالحليفان الرئيسيان لحكومة الأسد وهم الروس والإيرانيون يقفان اليوم في صف دعم استقرار حكومة أروغان بل أن هناك معلومات تزداد مصداقيتها كل يوم بأن معلومات أفشال الانقلاب جاءت من موسكو وطهران قبل ساعات من افشاله وأن الامريكان لم يكونوا بعيدين عن الانقلابيين لا سيما وان الطائرات أقلعت من قاعدة انجرلك مركز تواجد طيران الحلف الأطلسي وتردد الولايات المتحدة الامريكية بإدانة ما يجري في تلك الليلة مبكراً بل انها تحدثت في البداية عن انتفاضة في تركيا ثم عاد وزير الخارجية جون كيري ليدعو الحكومة التركية إلى عدم التمادي في الإجراءات ما بعد محاولة الانقلاب.
يشير قيام الأتراك بسحب ضباط الاستخبارات التركية من مناطق حلب الشرقية ولاحقاً ورود معلومات تؤكد قيامهم بسحب راجمات أمريكية من نوع "هيمارس" من الحدود السورية التركية والتي نصبت باتفاق مع الامريكان في شهر أيار /2016 والتشديد على المطارات التركية بخصوص القادمين من بعض الدول الأوروبية وروسيا وبعض الدول العربية التي تعتبر خزاناً مهماً للمقاتلين مع التنظيمات الإرهابية؛ دون أدنى شك إلى أننا أمام استدارة تركية في الملف السوري تؤكدها معظم التحليلات السياسية في الصحافة العالمية ؛ فلقد أشارت المستشارة السابقة لرئيس هيئة الأركان الامريكية ساره شايز إلى أن التقارب الروسي الإيراني مع تركيا بعد فشل الانقلاب ينعكس على سير العمليات العسكرية في سوريا وتحديداً في حلب وانها تعتقد ان جائزة ثمينة تلقاها الأسد بعد أن غرق خصمه التركي في التداعيات الداخلية لما بعد الانقلاب والتي ربما تكون أخطر من الانقلاب فيما لو نجح.
اليوم لا يمكن إنكار التبدل والاستدارة التركية في الموقف من الصراع العسكري في سوريا دون أدنى شك وقد تضطر لتجاوز كثير من الشعارات والسقوف العالية التي طرحتها عندما كانت الموازين والمؤشرات على الأرض وفي السياسة تسمح بذلك ولكن الأمور اليوم اختلفت كلياً لا سيما وأن عراب الغرق في الملف السوري رئيس الوزراء السابق قد غادر دائرة التأثير ولديه خلاف جوهري مع أردوغان حول تركيز الصلاحيات في يد الرئيس وتحول تركيا لنظام رئاسي بدلاً من البرلماني؛ وبعيدا عن الإغراق في التفاؤل فأنه من الصحيح ان تركيا لا تملك وفي ضوء الوضع الداخلي المأزوم الا أن تستدير إقليميا، ولكن هل هي استدارة كاملة أو انعطاف استراتيجي في الموقف لأنها ربما بحاجة لظرف سياسي ملائم لهذه الخطوات قد يأتي من خلال دعم الموقف الروسي الأمريكي والتفاهمات التي حصلت في اللقاء الأخير، والذي توج بإعلان المبعوث الأممي ديمستورا بأنه سيدعو لعودة المباحثات في جنيف بين وفد حكومة الأسد والمعارضة السورية والتي سيشارك بها الأكراد على ما يبدو في نهاية الشهر الثامن؛ ولعل من المفيد ان نتذكر أن تركيا اليوم لن تجازف في الاستمرار بمواقفها المتشددة في الملف السوري لان ذلك عكس التيار واشبه بالانتحار السياسي، وعلى العرب المؤيدين للديمقراطية في تركيا أن لا يقبل بأستمرار تدخل تركيا وغير تركيا في بلدين عربيين مركزيين كسوريا والعراق والعمل على التدخل في الشؤون الداخلية لأكبر بلد عربي !!ِ