تداعي صور الفقر والحرمان!
تبدأ «المربعانية» بموجة البرد الاولى, فاذا صاحبها مطر غزير تهلل وجه مزارعي القمح, ايام كنا نزرع القمح, فالموسم واعد!!
خطر في ذهني هذا الخاطر, بعد أن انقطع التيار الكهربائي من ليلة الجمعة, وبقي مقطوعاً كل نهار الجمعة. واخذنا شحنة برد هائلة رغم وجود الحطب, وتجمدت اصابعنا عن الكتابة.
فشجر الكمالية كان ليلتها يموج كالبحر من الرياح العاتية, فتقطعت اسلاك الكهرباء!! لم نستطع أن نفتح الباب الرئيسي الذي يعمل بالريموت, ولم ندفأ, ولم نأكل بطريقة عادية. وكان الفلاح في داخلنا يرجف ويضحك على «زخ المطر» وفي العيون ينام ألف حلم بالزرع والحصاد!!
كنا نقرأ في قواعد اللغة أن فعل كان الناقص يصبح كاملاً أي يأخذ فاعلاً ومفعولاً به اذا جاء بمعنى صار!! وكان المثل بيت شعر يقول:
اذا كان الشتاء فادفئوني فإن الشيخ يهرمه الشتاء.
ترد القاعدة ومثلها في الذهن, فهل انا شيخ؟؟ لكن المؤكد أن اسبوعاً من اسابيع انقطاع الكهرباء سيهرمني قطعا.
صديقي الذي عاقبني بالحرمان من مرحبا او هاتف، او زيارة حميد سعيد، روى لي كارثته وكارثة العراقيين بعد انتهاء العدوان الاميركي على العراق، فاكتشف بعد ان فتح صنبور الماء ليحلق ذقنه ويذهب الى عمله في الصحيفة.. ان لا ماء في الصنبور وحين حاول ان يحلق على الناشف بآلة الكهرباء لم تعمل الآلة لانه لا كهرباء في بغداد، وحين غادر منزله لم يجد بنزينا لسيارته لان المحطات تعمل على الكهرباء.
وهذه الاشياء التي عشنا ايامنا وهي حاضرة كالماء والكهرباء في حياتنا نفقدها فتضج حركتنا اشبه بحركة المشلول، فاذا كنت تريد ماء فاذهب الى دجلة، واذا اردت ان تأخذ من مائه فعليك ان تعرف ان مجاري بغداد التي كانت ترفع بمضخات عملاقة أفل زمانها فذهبت الى النهر.
وكان سؤالي بانقطاع الكهرباء لأقل من يوم كسؤال حميد سعيد بعد دمار بغداد: هل اننا اصبحنا اسرى لما صنعته ايدينا من مخترعات تشرّف الحياة وتجعلها اكثر يسر ونجاعة.
نحن من جيل البلدات التي لم تعرف الكهرباء، وان تميزت مادبا بالمياه الجارية في بعض البيوت منذ ثلاثينات القرن الماضي حين كان المغفور له توما الحمارنة رئيسا للبلدية، لم نكن نعرف الكهرباء لكن الموسرين كان عندهم راديو يعمل على فراش يحركه الريح على سطح الدار، ويشحن البطارية، وكان الناس يتحلقون - كما اراهم الان - حول الراديو يسمعون هنا برلين، وهنا لندن وتنتهي النشرة «بهوشة» لان الناس عندنا ينقسمون دائما مع الانجليز او مع الالمان.
وكانت بيوت اعمامي في «الحوش» لا تشرب إلا من آبارهم، ينشلون الماء منها، ويصبونها في جرار كبيرة على بابها حطة شاش قديمة لالتقاط الدود الاحمر من الماء.
ترى لماذا تتداعى هذه الصور في ذهني لمجرد انقطاع التيار الكهربائي نصف يوم؟ اشعر وانا اطرح السؤال ان السؤال لا ينصرف الى طفولتي وإنما الى اخوتي السوريين.
(الراي )