صراع الهويات العبثي
لم يكن ينقص الانتخابات النيابية، إلا دخولها في صراع الهويات المفتعل، وكأن التقسيمات المجتمعية نتيجة نظام الصوت الواحد، و السياسات التشتيتية والإجراءات الاقتصادية التهميشية ليست بمصيبة كافية عصفت وتعصف بنا.
من غير المعقول وصف كل القوائم الوطنية، فيما عدا قائمة واحدة، بأنها "قوائم توطينية"، فهل تحول معظم الأردنيين بغض النظر عن الأصول والمنابت في ليلة وضحاها، إلى مهووسين لا يعنيهم سوى تنفيذ المخططات الإسرائيلية على حساب وطنهم، وكله من أجل عيون المقاعد النيابية؟
ناهيك عن الضرر الكبير، الذي تحدثه ما أصبح يسمى "بقائمة فتح"، بمعنى قائمة فلسطينية تختزل العلاقة الأردنية الفلسطينية في منافسة على مواقع في البرلمان، توسع الفرقة وتجعل ابن مخيم حطين في مواجهة إبن المليح في ذيبان—وبالتالي تأجيج صراع الهويات والانتماءات الفئوية.
الاتهامات بدأت بوصف مقاطعة الانتخابات بأنها تصب في صالح " التوطين"، و بالتشكيك بوطنية المقاطعين والتشكيك في انتمائهم؛ فالوطنية كما يبدو، لها شروط وأوصاف تضعها فئة معينة، حسب مواقفها الثابتة والمتغيرة.
ثم اتسعت دائرة الاتهام شبه التخويني لتشمل معظم المشاركين في الانتخابات النيابية فكيف لذلك أن يؤسس للحمة مجتمعية تحمي الأردن من أية مخططات سواء إسرائيلية توطينية أو أمريكية توريطية؟
لا شك أن هناك نقاط كثيرة، يجب أن تتم مناقشتها و بوضوح، من أجل سلامة الأردن، وحماية القضية الفلسطينية من النوايا التصفوية، لكن لا يمكن أن يكون هناك نقاش جاد وحقيقي في أجواء مشحونة من التخوين المبطن، وإثارة صراع الهويات المدمر.
يجب أيضاً أن تتوفر أجواء صحية، وفكرية ، لمناقشة قضايا المواطنة والحقوق في الأردن، بهدف إرساء أسس دولة القانون والمساواة، دون تقويض لهوية الأردن، و لا ظلم لمواطنين أردنيين، لكن ذلك يحتاج إلى التخلص من العصبوية ،أخذين بالاعتبار قرار فك الارتباط، كخطوة تاريخية تخدم المصالح الوطنية الأردنية والفلسطينية معاً.
هناك مخاوف، لا تتعلق بالتوطين، لكن من اجتياح الهوية الفلسطينية، بمعنى الديموغرافيا والنفوذ خاصة في مفاصل الدولة، على حساب " الأردنيين الأصيلين"، وهناك أيضاً مخاوف أن أصول المواطن الأردني، خاصة الفلسطينية، تجعل التمييز ضده مشروعاً باسم مواجهة الوطن البديل.
لا نستطيع تجاهل هذه المخاوف، سواء واقعية أو مبالغ بها، ويجب محاولة الإجابة، بشجاعة وصدق، على الأسئلة الصعبة التي خلقها موقع الأردن الجيوسياسي، و توقيع اتفاقيات ومعاهدات لا تحقق سلاما أو سلماً، مثل أوسلو ووادي عربة، تبعها انغلاق أفق الحل العادل للقضية الفلسطينية، بالإضافة إلى سياسة "فرّق تسد"، ثم جاءت الأزمة الاقتصادية لتزيد المخاوف عمقاً والشكوك تفاقماً.
لكن تشكيل قوائم، ليست بالضرورة بشخوصها -ومنهم أصدقاء- بل الفكر الذي وراءها، يجعل من مسألة الهوية الوطنية الأردنية، ضمنا مشروطة بمواجهة النفوذ أو الهوية الفلسطينية، ما يهدد بإذكاء النعرات الإقليمية، على حساب الفئات الأوسع، في الدفاع عن حقوقها السياسية، الاجتماعية والاقتصادية، ومعاناتها المتزايدة، من أي أصول كانوا.
أما ما يطلق عليه بقائمة "فتح" علماً أن أهم قيادات الحركة في فلسطين المحتلة ترفض تبنيها، فلا يمكن أن يكون جواباً أوحلاً، لكنه قد يفيد أطرافا فلسطينية متنفذة، تعتقد أن الانتخابات ساحة صراع على كسب الجهات الرسمية الأردنية، ضد حركة حماس، ويفيد أطراف متنفذة أردنية بهدف مشاركة الأردنيين من أصول فلسطينية في عملية الاقتراع.
وحتى لو كانت القيادة الفتحاوية، هي وراء القائمة، فالموقف مرفوض من كل النواحي، و سواء كانت التي تسعى للتدخل حركة حماس أو حركة فتح، أو من يتمسح بالحركتين، صدقاً أو تزلفاً.
لأن التدخل يمس بالمصلحة الوطنية الأردنية والفلسطينية، كما هو تشويه للتاريخ النضالي لأي تنظيم، خاصة حركة فتح التي فجرت المقاومة الفلسطينية بعد النكبة.
نهاية يجب أن نستفيق إلى حقيقة أن خطاب صراع الهويات، الضمني أو العلني، سيؤدي إلى تمرير سياسات وإجراءات اقتصادية ضارة باسم الانتخابات النيابية، وتجعل الأردن أقل صلابة في مواجهة أية مخططات إقليمية أو دولية.