دولة مدنية..لا دينية ولا عسكرية
مصر "الغليان" تعيد التركيز على شروط عملية التحول من الدولة الاستبدادية إلى الدولة المدنية الديمقراطية التعددية؛ فصندوق الاقتراع وحده لا يؤسس لا لديمقراطية ولا لعدالة، وصياغة الدستور يجب أن تكون توافقية وتسبق الانتخابات، ولا تجيز تسييس "الدين" لحساب السلطة.
الانتخابات نفسها لم تكن يوما ما تجسيدا للديمقراطية، بل وسيلة لضمان تمثيل واسع ومشاركة شعبية في صنع القرار، وآلية للرقابة ومساءلة ومحاسبة السلطة التنفيذية، يحدد نجاحها نظام انتخابي عادل ودستور يضمن فصل السلطات ومنع احتكارها من قبل الحزب الفائز.
هذا لم يحدث تماما في مصر؛ بل يتهددها سيناريو صدام مجتمعي محتمل نتيجة نظام انتخابي يرجح أغلبية بدلا من التمثيل النسبي للتيارات المختلفة، والأهم لأن صياغة الدستور وإقراره تبعت الانتخابات وبالتالي استطاعت السلطة الجديدة تطويعه، أو جزءاً هاماً وفقا لمصالحها.
من الخطأ فهم هذه القواعد، من منطلق تعصب أيديولوجي، أو انتقائي: بل يجب فهم أهميتها في تأسيس الدولة المدنية بغض النظر عن هوية وأيديولوجية الحزب الفائز، سواء حزب علماني أو ديني، يساري أو قومي أو ليبرالي.
فتجارب النظم القومية في العالم العربي، لم تكن نموذجا للحريات وحقوق الإنسان او التعددية، وتجارب النظم الليبرالية في العالم تفتقد في درجات متفاوتة إلى العدالة الاجتماعية، وهذه مسألة لا يمكن القفز عنها خاصة في مجتمعات تحتاج الى اعادة بناء اقتصادها الوطني وتعاني من تنامي نسبة الفقر وأعداد الفقراء فيها.
أما النظم الشيوعية، وحتى لو اعترفنا أهمية دورها في تأسيس نموذج لحقوق العمل والتعليم والرعاية الصحية، وتوفيرها ليس لشعوبها فقط بل لملايين من شباب العالم الذين التحقوا بجامعاتها خاص من دول الجنوب، لكنها انتقصت من بعدَي الحرية والحريات.
هذه الحقائق تضعف التيارات القومية، واليسارية، والنموذج الليبرالي بتبنيه الاقتصاد الرأسمالي، جميعها مطالبة بطروحات تجمع بين الرؤية التحررية والالتزام بالحريات وحقوق الإنسان والعدالة السياسية والاجتماعية.
لكن من الصعب تجاوز أيديولوجية الحزب الحاكم حالياً في مصر المرتكزة إلى مفاهيم قيمية وتفسيرات دينية معينة، سبقتها عقود من تصريحات وأدبيات وفتاوى، في معظمها، أو أكثرها على الأقل أحادية، تُخَطّىء "الآخر"، وتلجأ أحياناً إلى "تكفير" الرأي المخالف.
فلا يمكن اختصار المخاوف والمعارضة للإخوان بالإسلاموفوبيا، دون إنكار لدورها، لكن على الإسلاميين الاعتراف أن بعض طروحاتهم السياسية، وبالأخص الاجتماعية المتزمتة ربت هواجس عند فئات واسعة، متدينة وغير متدينة، مسلمة ومسيحية.
لكن إقصاء الأحزاب الإسلامية، وبالأخص الإخوان، أو منع وصولها بالانتخابات الى الحكم ليس حلاً، فهي تُمثل في أغلب الدول العربية، نسبة هامة من المجتمع، وهنا تكمن أهمية الدستور، لأنه مؤسس للقوانين وفصل السلطات وللنظام الاقتصادي وتنظيم للعلاقات المجتمعية.
كانت هناك فرصة لوضع دستور توافقي قبل الانتخابات، يزيل خشية كل الأطراف ويضع ضوابط تسد الطريق، على "أسلمة الدولة والمجتمع"، حسب طروحات معينة، إخوانية كانت أو سلفية، وتمنع تغول السلطات التنفيذية على السلطات التشريعية، من قبل أي حزب حاكم.
فوجود نصوص في الدستور، تتيح وضع قوانين قد تؤسس لدولة دينية، أثارت مخاوف واسعة، فيما قبول الرئيس مرسي بإجراءات رفع الأسعار المطلوبة من قبل صندوق النقد الدولي، استعدت الفقراء، والعمال، وشرائح من الطبقة الوسطى.
الشرعية الانتخابية، أو شرعية الصندوق، لا تعطي ضوءا أخضر دائما، بل ينتقل اللون الى الأصفر والأحمر، وفي أوروبا سقطت حكومات منتخبة إثر فشلها، فتلك ليست المسألة، بل الأهم هو إيجاد مخرج يتجنب الحرب الأهلية.
فالإقصائية لا تقتصر على الإخوان، بل إنها جزء من ثقافة خلّفها الاستبداد، تصيب تيارات وفئات مجتمعية مختلفة، وبعضها يعبر عنه في أوساط المعارضة العلمانية العربية.
إذ إن مفهوم الدولة المدنية، يؤسس للمشاركة وليس الإقصاء، لذا يتعارض مع الدولة الدينية والنظم العسكرية، فهل نقبل سيطرة الجيش، إذا لم يتنح مرسي؟ وأقولها وفي رأسي ما زال يتردد شعار "يسقط، يسقط حكم العسكر".