«قصة موت معلن»... في وداع «التيار»
يسجل للباشا عبد الهادي المجالي أنه لم يبرح ساحات العمل الوطني العام، بعد عقود من العمل في السلك الحكومي والدبلوماسي والامني، تقلب خلالها على أرفع المناصب الرسمية ... الرجل لم يلزم أريكته، ولم يختر الإبحار في عوالم السياحة والتقاعد المريح، بل اختار البقاء على الساحة وفي السياسة، ونشط كما لم يفعل غيره من «رجالات الدولة السابقين».
ليس مهماً على الإطلاق إن اتفقنا مع «أبو سهل» أو اختلفنا معه، هذا تفصيل صغير للغاية ... الأهم أن الرجل ظل يقظاً بعقله وجسده، عمل على تأسيس أحزاب كبرى وخاض التجربة مرتين، وفوق هذا وذاك، ظل يواكب الجديد ويرفده بأفكار وتصورات، كانت على الدوام موضع اهتمام وجدل في أوساط النخب السياسية والاجتماعية، بخلاف كثيرين من جيله ومن أجيال سبقته وأعقبته، آثرت الانزواء في ثياب في التقاعد المريح، حتى أنك حين تسمع باسم أحدهم، تحسبه خرج من بئر سحيقة.
عبد الهادي المجالي ينعى تجربة أكبر حزب وسطي في البلاد: التيار الوطني، بعد سنوات من تجريب الحضور والمشاركة والتأثير ... قبلها بسنوات كان الرجل قد نعى تجربة تأسيسية، ظنها البعض واعدة، وأعني بها تجربة الحزب الوطني الدستوري، وأصدقك القول يا أبا سهل، أن المفاجأة لم تعقد لساني وأنا أتتبع مآلات الحزبين على حد سواء، وربما تذكر في حفل التأسيس أنني ألمحت لأمر كهذا، وإن كان المقام ومناخات التأسيس والانطلاقة، لا تسمح بإطلاق تقديرات متشائمة.
كل ما قاله المجالي بالأمس، ويقوله اليوم عن أسباب ضعف الحياة الحزبية الأردنية، أو بالأحرى إضعافها، صحيح، بل وصحيح تماماً ... فلا الإرادة بتطوير «ديمقراطية متعددة الأحزاب» قائمة، ولا التشريعات تساعد على ذلك، ولا الحكومات المتعاقبة باجهزته الوزارية والتنفيذية ترغب برؤية أحزاب ومراكز قوى اجتماعية مؤثرة ... هذا كله صحيح، قلناه وقلته، وقالته شخصيات عديدة خاضت غمار التجربة أو راقبتها عن كثب.
لكن مشكلة حزب التيار، تكاد تختصر مشكلة معظم، أو بالأحرى جميع، ما بات يعرف بالأحزاب الوطنية/الوسطية، التي تكاثرت بسرعة فائقة خلال ربع القرن الأخير الذي أعقب إقرار أول قانون أحزاب سياسية إثر استئناف المسار البرلماني/ الحزبي بعد انقطاع طال واستطال، وأحيلك يا «باشا» إلى مؤتمر «الأردن وسيناريوهات المرحلة المقبلة» عام 2002، عندما بحثنا في العمق، مأزق هذا التيار وغيره، بعد مرور عشر سنوات على انطلاق التجربة وانبثاق هذه الأحزاب.
هي أحزاب بلا «لاصق» من أي نوع، لا إيديولوجيا تجمع أصحابها، ولا مسحة فكرية تسمح للمراقب والدارس بتصنيفها، أو التعرف على قاعدتها الاجتماعية/التمثيلية ... هي ردة فعل على ما أسمي عصر انهيار الإيديولوجيا، مع أن نعي الإيديولوجيا، جاء مبكراً، وبلا أساس، فما تغير هو الانحيازات الصلبة لإيديولوجيات معينة، منع أصحابها من رؤية ما يدور من حولهم، لكن حتى في أعتى الرأسماليات / الديمقراطية، هناك يمين ويسار، يساريون وليبراليون، أحرار ومسيحيون محافظون، وسط ويمين الوسط ويسار الوسط، هناك ألوان تعكس «نكهات إيدلوجية» يسهل معها توفير «لاصق» يجمع أعضاء الحزب، ويصبح بها ممكنا التنبؤ بتوجهاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ونظرته للعلاقات الدولية بتحالفاتها ومحاورها.
في الحالة الأردن، عشرات الأحزاب الوطنية/الوسطية، نشأت على جذع شخصية بيروقراطية أو عشائرية ذات ملاءة مالية في الغالب، كان ذلك قبل إقرار أنظمة تمويل الأحزاب، حيث بات تشكيل الحزب، طريقاً مختصراً للحصول على المال العام، ومن قبل إناس لا هم لهم سوى هذا الهدف، وهذا ما يفسر على أي حال، تكاثر الأحزاب في السنوات القليلة الفائتة، كالنبت الشيطاني.
تسبغ على نفسها صفة «وطنية»، نازعة هذه الصفة عن الأحزاب الأيديولوجية، مكرسة الدعاية السوداء المضادة للأحزاب والحزبية، والتي نهضت تاريخياً على الاتهام الجاهز بالولاء للخارج واتّباع أجنداته، مع أنها أحزاب وطنية، ترى الوطن ومصالحه بأدوات أيديولوجية مختلفة، وربما كانت «وطنية» هذه الأحزاب من النوع المكلف، الذي لم تقو أحزاب اشتهرت بـ «الوطنية» على تحمل تبعاتها.
ونقول أحزاب «وطنية» مع أن كثرة كاثرة منها، ليست سوى أحزاب جهة أو عشيرة أو حارة أو منبت، ما ينزع عنها صفة «الوطنية» بمعنى تمثيل أوسع الشرائح الاجتماعية، وتجسيد الجغرافيا والديموغرافيا الأردنيتين.
وهي أحزاب «موالاة»، مع أنها ليست في الحكومة، وهذه ظاهرة أردنية فريدة، لا تصنف نفسها معارضة، مع أن أيا من حكومات ربع القرن الأخير، لم تستشرها في أي شيء على الإطلاق ... لم تفلح في امتلاك أي من أدوات العمل الحزبي والجماهيري الضاغطة، فلا هي في الشارع تتظاهر ضد سياسة أو قرار، ولا هي على الدوار الرابع، معتصمة حتى تقبل الحكومة بمطالبها، وهي حتى حين كانت تتوافر على أغلبية برلمانية، بطرق غير حزبية بالطبع، لم تستخدمها يوماً لحجب الثقة عن وزير، دع عنك إسقاط حكومة وتشكيل أخرى.
لماذا تكترث الحكومات والنظام السياسي بهكذا أحزاب؟ ... لماذا تقيم لها وزناً أو تحسب لها ألف حساب؟ ... لو أن هذه الأحزاب جربت إسالة «الأدرينالين» في شرايين الحكومات المتعاقبة، لما كان هذا حالها ... لو أن هذه الأحزاب تموضعت في زاوية من الخريطة السياسية والفكرية، لوجدت من يؤيدها، لكنها لم تفعل هذا ولا ذلك، فظلت عبارة عن صالونات، أمضى سلاح بيدها هو «الحرد» و»الاستنكاف»، وأخيراً مغادرة الساحة من دون جردة حساب مع الذات.
حين نتحدث عن تجربة التيار ومن قبله الوطني الدستوري، فنحن نتحدث عن أهم تجربتين محسوبتين على خط الأحزاب «الوسطية/الوطنية»، وهناك كما قلنا عشرات الأحزاب من اللون ذاته، كثير منها، لا يستحق أن يراق بشأن تجربته حبرٌ كثير أو قليل ... وحين نوجه سهام نقدنا لهذا التيار، فليس لأننا مندهشون بتجربة اليسار والقوميين والإسلاميين ... فالمأزق يعتصر الجميع دون استثناء، ولكل تيار من هذه التيارات، أسباب خاصة تظافرت مع الأسباب العامة في تشكيل أزمته، بل وفي تحويل «الحزبية الأردنية» إلى تجربة مجهضة، أقله حتى الآن، وربما إلى أمد غير منظور.