رحلة في زقاق البلد
فراس عوض
جو 24 :
هناك، حيث سحر المكان الكامن ببساطته وعفويته، زقاق وسط البلد، رائحة الأصالة والتراث، العزة والحب، المقاهي الملتهبة بالمثقفين والبسطاء، الجالسين على طاولات خشبية قديمة نوعا ما في التصميم، حديثة بنوعيتها، يقراون الجرائد، ينبشوا عما استجد بها من اخبار، يمسك احدهم بيده الاخرى خرطوم النرجيلة ، يطأطئ راسه باتجاه الجريدة، ثم يرفع رأسه و ينفث الدخاان عاليا، احيانا ينفث نفثة بسيطة، و احيان اخرى، نفثة كبيرة، تنتشر كسحابة كثيفة، تتمزق وهي متطايرة، ففتملأ المقهى مع نفثات الزباءن الاخرين، ربما الخبر المقروء، يحدد حجم النفثات وسرعتها، تكمل مسيرك، رائحة البهار والزعتر والقرفة والزننجبيل، الهال والبن بعطرها المنتشر رذاذه مع النسمات الصباحية العليلة، الممزوجة بعذوبة صوت فيروز - اه لو كان صباحا بلا فيروز- فالقهوة ستصبح بوجه حزين! صوتها الخارج من مذياع المقهى، يراقص ارواح المارة، فتبدوا على شفاهم تمتمات، مقرونة بابتتسامات كانما يرددون خلف السيدة، في حفل مهيبب، صوت يتسلل الى القلب بلا استىذان : حبيتك بالصيف ..حبيتك بالشتي... اسامينا.. شو تعبو أهالينا.. تلقوها.. تسمع قرع فناجين القهوة والكؤوس، بينما يمسكها النادل بحركات بهلوانية، بانسجام واضح، كانما بينه وبينها لغة مشتركة، فلا تسقط ولا تتكسر. شجن أصوات الباعة في سوق الخضار ، حيث تقف العربات الخشبية الهرمة، حتى اصحابها هرمين، لكن ارواحهم شابة، تلك العربات الصامدة على مر التاريخ، لم تتغير من حيث المبدأ، في خضم ما عصف في حياتنا من تحولات، سادت فيها التكنولوجيا الحديدية، لكن الاصل يبقى ، بل يتحول من شكل الى اخر، اذ ان الشجرة لن تكن موجودة لولا الجذر!.الى الجانب، تجد محل عصير قصب السكر، ذات المذاق الحلو، اللاذع و الكثيف، يطحنه ويخفقه البائع في الماكنة الفضية، التي يزين حوافها من الخارج بسيقان القصب الفارعة، الواقفة كسيقان البامبو، في واجهة المحل، يغريك فتشتري كوبا، وتشربه بعد ان ينذرك دماغك بحاجتك لشيء من الطاقة، كي تستطيع استكمال جولتك، تمر ببسطات الكعك بالبيض و أخرى بالزعتر والجبنة، والى جانبها بسطات الكتب المتنوعة، بعناوين براقة ، وخاصة كتب التنمية البشرية التجارية الرائجة، بعدما دفنت تحتها كتب الفكر والسياسة والروايات، دفنت عالم صوفي والخيميائي واحجار على رقعة شطرنج، وظهرت كتب بعناوين: كيف تكون بنتيوم فور بساعتين، كيف تصبح مليونير بيومين..كيف تكون حمار شغل ومثلها، المهم لا استغرب ان تتجاور العربتين، الكتب والكعك، فاحداهن غذاء للجسد و اخرى للروح، فلا انفصال اذن، تلتفت الى الامام وتكمل مسيرك، اقفاص الطيور التي تباع بالمزاد على وقع الحانها الحزينة، ما بين زقزقة وصفير وهديل مرهق، العصافير والحمام والبط و الديوك المنوعة، حزينة في اقفاصها المهترئة المكتظة، بعدما قبض عليها احد البشر وحكم عليها بالمؤبد، يقدم لها السجان الحبوب، لكن، حتى الطير لا يكفيه ان تقدم له الحبوب الشهية، مقابل مصادرة حريته، انه مخلوق من حرية! تقترب قليلا ، فتجد قارمة قديمة، مهترئ دهانها ممسوح من الحواف ويظهر عليها الصدا، مكتوب عليها : سوق البخارية، انه اقدم اسواق الاردن وانقاها، وابرز معالمه، ذو مدخل ضيق، اشبه بمدخل السيق، متخفيا بين المحال المصفوفة حوله ، يظهر وجهه امامك، تكاد لا تعرف انه باب للسوق، اذ يبدو كثقب النمل في الارض ، تدخله ، فتجده متشعب من الداخل ،مليء بمحال صغيرة، الناس فيه كالنمل،يدهشك بريق التحف والخرز والللاليء الدقيقة ، المناضد والاعواد و النحاسيات و الاشكال والصينيات الفضية والمذهبة، دلال القهوة العربية و الركوات النحاسية الجميلة، الخواتم اللامعة المطلية المخرزة والمتلألئة كالنجوم ،تذهلك بجمالها ، المطرزات اليدوية المسكونة بكد وكدح النساء، طبيعي ذلك، فالكادحات هن الجميلات، والجمال مصدره الكدح، العطور التي تفوح روائحها حولك، كانك في بستان مليء بالزهور والنباتات العطرية ، معبأة بزجاجات مختلفة الاحجام، بعد ان تخفف ويضاف لها الماء والكحول، وأخرى في عبوات فضية طويلة ، ذات سدادة خشبية، كسدادة النبيذ، فيها العطور المركزة، قبل ان تخفف وتعبأ في الزجاجات وتعرض ، تمهيدا لبيعها، وعلى الاغلب تركب امام الزبائن، باستخدام محقنة صغيرة، يرش البائع البواقي الكامنة في بالمحقنة على قميص الزبون، بعد ان يركب له العطر الذي يريد، هناك، في الممرات، ابتسامات خجولة، وبعض غمزات الصبية الذين يراقبون الصبايا، ذهابا وايابا، او وقوفا، مستغلين مفاوضات امهات الصبايا مع الباعة حينها، ليسترقوا النظر اليهن، لعلهم يظفرون بواحدة من الصبايا الواقفات امام المحال، اللواتي ينتظرن انتهاء المفاوضات، ويأملن لو طالت امدها، فلعلهن، يظفرن بواحد من الغمازين مسترقي النظر من الشباب، عله يكون عريسا محتمل، او على الاقل حبيب مؤقت، فالعيش على اكناف الحب، خير من لا شيء، فلا باس ان يبحث كل منهن ومنهم عن معطف يدفئه! تخرج باتجاه الشارع، تتابع سيرك في الزقاق القريبة، يغريك الباعة بفن ابدعوه وهم ينادون بصوت اوبرالي واحيانا ثخين : اي قطعه بليرة.. فرصة و رخصة.. يا بندورة يا بلدية يا بري يا موز... عسل يا برتقال..مقلم يا خيار.. اي قطعة بنص دينار وأكثر، وهنا فكلمة اكثر، اشبه بخديعة، فهناك اشياء اكثر من نصف دينار وقد يصل سعرها خمسة دنانير مثلا، لكن لا بأس لطالما أكدوا علينا ب"وأكثر"! اذ ان كل منهم، وباصواتهم المختلفة، يريد ان يظفر باكبر عدد من الجمهور او قل الزبائن، ليجذبوهم برخامة اصواتهم المتعبة الكادحة، كانهم في سباق فني على مسرح " ارب ايدل" الصوت وبس، لكن النجوم هذه المرة هم الباعة.
تتجول بين العصائر الملونة بصبغات، ومنكهة باصنصات ، ومكتوب عليها : طبيعي، نعلم انها ليست كذلك، لكن لا بأس، والى جانبها المناقيش الشهية والكعك، منه الاسطواني و الطويل والدائري المغطى بسمسم، تصيبك نشوات و تخترق قلبك سعادة فريدة لرائحته وهو يخرج من الفرن ،سعادة مغمورة ببساطة وابتسامة مرسومة على وجوه الناس المتدفقين بين البسطات والمحال ، وأحيانا العبوس، لقلة الحيلة لشراء حاجيات، يرونها ولا يملكون ما يلزم لشراءها، الاطفال المتجولين مع أمهاتهم و اباءهم احيانا، يتسمرون امام الألعاب، خاصة لعبة القط الراقص، و الدب الراكض- و ما اكثر الدببة الراكضة في حياتنا- والقطار السريع المتعرج، ربما يهيأ لوالد الطفل قطار الامانة السريع في تلك اللحظة، او الحمار السريع- لا فرق-، تستمر نظرات الاطفال و حملقتهم، ترمقها عيونهم، لكن، وبطبيعة الحال، لا يتذكروا قطار الامانة السريع، كما الوالد، بل قطار "سبيستون"، فيشيحوا وجوههم عنها، يتركوها و يكملوا طريقهم ، والحزن يملا وجوههم، فتداريهم امهاتهم تلك اللحظة، و تعدهم بشراء مثلها في العيد، او يقدموا لهم رشوة، اذا كان هناك تصعيد بالموقف، مقابل الكف عن الحزن والبكاء.. كعشرة قروش، او شيبس، واحيانا قبلة وحضنة، وان استعصى الامر ، فالتهديد و الوعيد، والضرب من حديد، كما تفعل الحكومة مع المعارضة تماما ، تداري الشعب عند رفع الدعم عن الخبز والمحروقات، تداري غضبته والشعب يداري سوئاتها وفسادها..