كيف يُظلم الرجل في قانون الأحوال الشخصية الاردني؟
فراس عوض
جو 24 :
عندما ننظر بتأمل الى مصير الرجل المطلق في الأردن، وفق ما يفرضه قانون الأحوال الشخصية من تمييز صارخ ضده، نكتشف أنّ الطلاق ليس نهاية علاقة او فسخ عقد فقط، إنه بداية عقوبة ممتدة مادياً ونفسياً واجتماعياً.. الرجل الذي دخل الزواج بحلم تأسيس كيان أسري، يجد نفسه بعد الطلاق محاطاً بحلقات من الاستنزاف والبؤس والتمييز ، كلفة مادية لم تهدأ منذ لحظة الخطبة، وكلفة عاطفية تبدأ يوم حُرم من أولاده، وتمتد كظلّ طويل إلى أن يكبروا ويغادروا الجامعة..وتمتد عدواها للاجداد أيضا.
حين يتزوج الرجل، يدفع تكاليف باهضة تزيد عن عشرات الآلاف.. مهر يراوح ما بين ثلاثة إلى خمسة آلاف دينار بحده الادنى، شبكة وهدايا لا تقل عن ألفين، حفل زفاف..الخ كلها تلتهم ما بين عشرة إلى خمسة عشر ألفاً، بيت يسجّل عليه ديناً أو قرضاً يتراوح ما بين ثلاثين إلى خمسين ألفاً، وأثاث يكلّفه نحو سبعة إلى عشرة آلاف دينار. أي أنّ الرجل يدخل الزواج وهو يستثمر ما يقارب خمسين إلى ثمانين ألف دينار دفعة واحدة لبناء هذا الكيان الأسري..
ثم تبدأ رحلة الإنفاق اليومية، متوسط عمر زواج دام عشر سنوات، فيه ثلاثة أبناء صغار أعمارهم بين عام وخمسة أعوام، يعني نفقات طعام وكساء وعلاج وتعليم أولي ومصروفات شهرية. الدراسات الأردنية تشير إلى أنّ متوسط نفقات الأسرة الصغيرة (زوجان + 3 أبناء) خلال عقد كامل قد يتجاوز خمسين ألف دينار_ وربما تزيد الضعف والضعفين بحسب الدخل_، ما بين مأكل ومشرب وفواتير وعلاجات ومدارس. هذه كلها كان الرجل يموّلها بحكم مسؤوليته التي يفرضها القانون والمجتمع معاً.
لكن المفارقة تبدأ عند لحظة الطلاق. فجأة، يتحوّل كل ما قدّمه إلى نقطة صفر.. الأم تأخذ الحضانة بحكم القانون، والأب يُختزل ب "محفظة مالية" يدفع النفقة الشهرية، وتأمين السكن، والتعليم، والعلاج، والكسوة..وإذا كان دخله محدوداً، فإن الدين يتكاثر في رقبته، وإن تعثر يوماً، فالحبس بانتظاره، ولو كانت طليقته موظفة ذات دخل عالٍ. بل وأكثر من ذلك، يكلَّف الأب بدفع المتأخرات، وقد يخسر ما تبقى من أثاث البيت، ويضطر حين يعيد الزواج أن يشتري كل شيء جديداً. وإذا مددنا الحسابات، فإن الرجل بعد الطلاق وحتى بلوغ أبنائه سن الخامسة عشرة يدفع ما معدله ثلاثة إلى خمسة آلاف دينار سنوياً كنفقة، أي خلال ثلاثة عشر عاماً ما يقارب أربعين إلى ستين ألف دينار إضافية. ثم يدخل في دوامة جديدة.. مصاريف الثانوية، والدراسة الجامعية، وهي بحدها الأدنى اليوم لا تقل عن ألفي دينار سنوياً للطالب الواحد، فكيف إذا كان لديه ثلاثة أبناء؟
.هذا النزيف المادي لا يأتي منفصلاً عن النزيف العاطفي. القانون لا يكتفي بحرمان الأب من حضانة أبنائه، بل يختصر وجوده في حياتهم إلى نصف ساعة أو ساعة أسبوعياً داخل جدران المحكمة، أو في مركز مخصص للرؤية، كأنه يزور سجناء لا أولاد.. انه يتسول رؤية ابناءه، هنا يكمن الجرح الذي لا يندمل؛ أن يعيش الأب خمسة عشر عاماً وهو يلتقي أبناءه بضع ساعات كل شهر، بينما الأم وأهلها يحيون تفاصيلهم اليومية..أول كلمة، أول خطوة، لحظات النجاح والسقوط، بكاء الليل وضحكة الصباح.. شمعات عيد الميلاد ..الأحضان والتقبيل..وهكذا ..اما الرجل، في المقابل، يذوي في غربة عاطفية أشد من السجن، إذ يكون حاضراً بماله وغائباً بجسده وروحه.
لو قسنا هذه الخسارة بالحساب البارد، سنجد أنّ الأب الذي ينفق ما يقارب مئة وخمسين ألف دينار بين زواج ونفقة وحضانة وتعليم، لا ينال إلا بضع ساعات مسروقة من حياة أبنائه.. كما لو كان لصا، أما الأم، فإلى جانب حقها بالنفقة والسكن والتعليم، تنال "المكافأة" الكبرى.. متعة الأمومة اليومية بلا منازع، واحتضان الأبناء والتمتع بعاطفتهم. أي أنّ القانون منحها المزايا المادية والعاطفية معاً، بينما أنزل على الرجل ثقل الخسارتين في الآن لانه!
النظريات العلمية في علم النفس تؤكد أن الحرمان العاطفي المستمر يقود إلى أمراض نفسية وجسدية معقدة.. نظرية "جون بولبي" في التعلّق العاطفي تشير إلى أن الانفصال القسري يولّد قلقاً مزمناً، وقد يتطور إلى اكتئاب أو اضطراب قلق حاد. دراسات في علم النفس الاجتماعي أظهرت أنّ الرجال المطلقين، خاصة المحرومين من حضانة أبنائهم، أكثر عرضة للإصابة بارتفاع ضغط الدم، أمراض القلب، الاكتئاب السريري، وحتى محاولات الانتحار مقارنة بغيرهم (WHO, 2019؛ American Psychological Association, 2021). وفي إحصائية أجريت في المملكة المتحدة، تبيّن أنّ نسبة إصابة الآباء المحرومين من أطفالهم بالاكتئاب تصل إلى 38%، مقابل 12% فقط من الأمهات المنفصلات (Office for National Statistics, UK, 2018). هذه الأرقام تؤكد أن الرجل يدفع ثمنين متوازيين: مالياً وصحياً، بينما لا يرى المجتمع في معاناته إلا "واجباً" مفروضاً عليه.
لا يقف أثر حرمان الأب من الحضانة عند حدود الجانب العاطفي والنفسي فحسب، بل يمتد ليضرب في العمق قدرته على التوازن المهني والاقتصادي. إذ تشير دراسات في علم الاجتماع الأسري (Amato, 2010؛ Nielsen, 2017) إلى أنّ الآباء الذين يُحرمون من الحضانة يعيشون حالة من الانهاك النفسي المستمر، ما ينعكس مباشرة على إنتاجيتهم في العمل، ويؤدي إلى تراجع في أدائهم المهني. وغالبًا ما تتجلى هذه الآثار في ازدياد معدلات الغياب عن العمل، ضعف الالتزام الوظيفي، وصعوبة التركيز في المهام، الأمر الذي يضعف قدرتهم التنافسية ويجعلهم أكثر عرضة لفقدان وظائفهم أو تراجع فرص ترقيتهم.
كما أنّ الإلزام القانوني بالنفقة – حتى في ظل غياب حق الحضانة – يضاعف الضغوط الاقتصادية على الرجل، إذ يتحمّل التزامات مالية كبيرة في وقتٍ لا يحظى فيه بالحق الطبيعي في ممارسة دوره التربوي المباشر (Fabricius et al., 2012). ويظهر هذا التناقض بوضوح في مجتمعات مثل الأردن، حيث تسجّل شكاوى متزايدة لآباء معسرين يُسجنون بسبب تأخر النفقة، رغم أنّ طليقاتهم يمتلكن دخلاً ثابتًا وربما أعلى منهم. هذا الواقع يخلق حالة من الإفقار البنيوي للرجل، إذ يجد نفسه عالقًا بين مسؤوليات مالية إلزامية وحرمان من روابط أسرية تسند استقراره النفسي والاجتماعي.
والأخطر أنّ هذا الوضع يترك أثرًا طويل الأمد على الهوية المهنية للرجل؛ فشعوره باللاجدوى والتهميش داخل أسرته يولّد تراجعًا في دافعية الإنجاز، وقد يقوده نحو العزلة الاجتماعية أو الانسحاب من سوق العمل غير الرسمي. وقد وثّقت دراسة صادرة عن Journal of Family Issues (2020) أنّ الرجال المطلقين المحرومين من الحضانة يعانون من معدلات أعلى من البطالة الجزئية والتقلب المهني مقارنة بغيرهم، وهو ما يعكس الترابط الوثيق بين العدالة الأسرية والاستقرار الاقتصادي للأفراد.
غير أنّ الكارثة لا تتوقف عند حدود الرجل، بل تتسرب إلى قلب الأطفال أنفسهم. هؤلاء الذين ينشأون على رؤية أبيهم دقائق محدودة في الشهر، يفقدون نصف هويتهم العاطفية. فالأب ليس فقط مصدراً للمال، بل هو رمز للأمان، قدوة للسلوك، ومرآة يتعلم منها الابن معنى الرجولة، وتستمد منها الابنة ثقتها بذاتها. حين يُستبعد الأب قسراً، ينشأ الأطفال بجناح واحد، فيفقدون التوازن العاطفي. الدراسات التربوية تشير إلى أنّ الأطفال المحرومين من دور الأب الفعلي أكثر عرضة لاضطرابات السلوك، ضعف التحصيل الدراسي، الميل للعزلة أو العدوانية، واضطراب الهوية الجندرية والاجتماعية (Lamb, 2010؛ Fabricius & Luecken, 2007). أي أنّ القانون الذي يُقصي الأب لا يعاقب الرجل فقط، بل يعاقب الأبناء الذين يدفعون ثمن غياب التوازن الأسري، ليكبروا بذاكرة ناقصة وحرمان نفسي يتوارثونه.
ولا بد.ان نعلم، ان دائرة الألم لا تتوقف عند حدود الرجل والاطفال فحسب، فأهل الرجل أيضاً يُزَجّون في هذه المأساة، إذ يُحرَم الجدّ والجدة والإخوة والأخوات من أبسط حقوقهم الطبيعية.. رؤية أحفادهم. هؤلاء الكبار الذين انتظروا بفارغ الصبر ضحكة حفيد أو حفيدة، يجدون أنفسهم فجأة خلف جدارٍ قانونيّ بارد، لا يحق لهم إلا "زيارة محدودة" قد لا تتحقق إلا بشق الأنفس. وقد أظهرت دراسات في علم الاجتماع الأسري (Lussier et al., 2002؛ Drew & Silverstein, 2007) أن حرمان الأجداد من أحفادهم بعد الطلاق يؤدي إلى شعور عميق بالفقد والاغتراب العاطفي، ويزيد من معدلات الاكتئاب والعزلة الاجتماعية لديهم. بل إن بعض الدراسات (Grigorovich, 2016) أشارت إلى أنّ انقطاع العلاقة بين الأجداد والأحفاد يسلب كبار السن أحد أهم مصادر الدعم النفسي والمعنى في حياتهم، إذ يشكّل الأحفاد امتداداً عاطفياً وجيلاً يعيد لهم قيمة وجودهم. وهكذا، لا يكون القانون قد عاقب الرجل المطلق فقط، بل امتد ليجرح قلب أسرته كلها، مانعاً الجدات من حكايات الليل، والجدود من نصائح الحياة، والأعمام والعمّات من روابط الدم الطبيعية. إنها خسارة لا تُقاس بالمال، بل تُقاس بدمعة جدة تشتاق لحفيدها، وبصمت جدّ يشيخ وهو ينتظر لقاءً لا يأتي.
و اكثر ما يثير الأسى ايضا، هو مهزلة التخيير، في هذه المهزلة، أنّ القانون يوهمنا بأنّ الطفل عند الخامسة عشرة "حر في الاختيار".. ، ولكن في حقيقة الأمر أن اختياره محسوم سلفاً.؛ فمن الطبيعي أن يميل إلى أمه التي عاش في حضنها منذ الصغر، والتي احتكرت وجوده اليومي وتفاصيله الصغيرة.. كيف يُنتظر من قلبٍ فتيّ أن ينحاز لوالدٍ غُيّب عنه قسراً، وسمح له القانون أن يراه دقائق معدودة في الشهر؟! النتيجة إذن واضحة، سيختار الأم، لا لأنه يكره الأب، بل لأنه لم يعرفه كما يجب، ولم يعش معه كما يليق.وفي حالات يعبأ ضد الأب انه تركه او رماه ويتم حشوه وتعبئته من امهات لا يخافن الله، . وهنا يتجلّى الظلم الحقيقي؛ إذ يُعاقب الأب مرتين، مرة حين حُرم من حضانة طفله، ومرة حين يُصوَّر وكأنّ ابنه تخلّى عنه بمحض إرادته. أيّ جرح أعمق من أن يرى الرجل فلذة كبده يختاره القانون ضدّه، لا لأنّ الابن أراد ذلك، بل لأنّ السياج القانوني صنع انحيازاً مسبقاً لا مفر منه؟ إنها قسمة جائرة تجعل الأب دائماً الخاسر، وتزرع في نفس الطفل شعوراً بالذنب والخذلان، كأنه خان من أحبّه رغماً عنه.
من هنا، يصبح الطلاق في ظل قانون الأحوال الشخصية الأردني أشبه بعقوبة جماعية قاسية للرجل، يُسلب ثمر سنوات من العمل، يُجرّد من رفقة أبنائه، يُحمّل أعباء مالية لا تنتهي، ويُختزل إلى حساب مصرفي يمشي على قدمين. وفي الوقت الذي تُكافأ فيه المطلقة بحضانة ومكاسب مادية واجتماعية وعاطفية، يُعاقب المطلق بالحرمان والديون والوصمة. ومن يظن أن رجلاً يختار الطلاق عن رفاهية، عليه أن يعيد النظر: الطلاق في هذه المعادلة ليس خيار ترف، بل خيار يترك الرجل محطماً، مستنزفاً، تائهاً بين قاعات المحاكم وغرف المستشفيات، يدفع من عمره وماله وعافيته ثمناً لعلاقة انتهت، بينما القانون يضاعف خسارته بدل أن ينصفه.
إن الحاجة باتت ماسة إلى حلول تعيد التوازن لهذه المعادلة المختلة.. فالرجل يظلم برعاية رسمية ومباركة السلطة، يجب أن يُعاد النظر في قانون الأحوال الشخصية بما يضمن حضانة مشتركة، أو على الأقل توسيع حق الأب في الرعاية المباشرة والتربية، لا أن يُختزل إلى زائر غريب.. ويجب تعديل مواد النفقة بحيث تُراعى قدرته الفعلية ودخل الأم إذا كانت عاملة، منعاً لتحويل النفقة إلى سلاح ابتزاز.. وان تشترك بالنفقة ان كانت ام عاملة ، وان يفرق بين ام عاملة وام ربة بيت ، فالرجل العاطل عن العمل، سرقت منه وظيفة بسبب المساواة القسرية في سوق العمل وما تفرضه من كوتات قسرية، كما تريد المنظمات الدولية، وان كانت الطليقة عاملة والطليق معسر ، فيجب أن تنفق ثم يتناصفوا الانفاق عندما بجد عمل ومنع التعميم على الطليق في حال الاعسار، كما ينبغي أن تتبنى الدولة برامج دعم نفسي واجتماعي للآباء والأبناء معاً لتقليل آثار الانفصال، وإدخال إصلاحات تتيح للأبناء العيش في بيئة أكثر توازناً بين الوالدين..عندها فقط، يمكن أن نقترب من عدالة لا تميّز بين أم وأب، بل تراعي مصلحة الطفل الفضلى في وجود كليهما معاً. فالأسرة ليست معركة رابح وخاسر، بل نسيج مشترك، وإذا أصرّ القانون على تمزيقه، فسيبقى الأبناء هم الضحية الكبرى، والآباء سجناء المنفى العاطفي الأبدي..
* الكاتب باحث في دراسات الجندر..








