الربيع العربي.. وأشباه المثقفين
من المؤكد أن موضوع الربيع العربي قد ملأ الدنيا وشغل الناس، لكن تعامل كثير من الثوريين والمناضلين والمثقفين واشباههم معه يثير العجب، ويثبت مقدار الضعف الفكري الذي تعاني منه النخب التي تدعي الثقافة في الوطن العربي ومدى حاجتنا لربيع فكري ومنطقي عربي، فهؤلاء بعقليتهم المثالية يحلمون بنمط معين للثورات على مقاسهم، وان لم تكن حسب رغباتهم بالضبط فهي ليست بثورات ولا بربيع، فعند كثير من اليساريين ان لم تكن الثورة اشتراكية خالصة فهي مجرد انتفاضة أو احيانا مؤامرة، وعند كثير من القوميين والاسلاميين أن لم تكن الثورة تناسب اهواءهم فهي كذلك إما تحرك لا طائل منه أو مؤامرة، وكل هؤلاء يحلمون بثورات تنتج فورا مجتمعا يتوبيا مثل قصص الاطفال تتقافز فيها الغزلان تحت اقواس قزح، ولعمري فإن وجود هؤلاء وأفكارهم المفككة المشوهة بحد ذاته هو مؤامرة القدر والتاريخ على الامة، ونأمل أن لا يتأخر التطور الفكري كثيرا خلف الربيع العربي السياسي.
يكمن جزء مهم من جوهر الضعف الفكري عند كثير من المهتمين بالشأن العام في وطننا العربي بعزوفهم عن القراءة عموما وعن قراءة التاريخ خصوصا، مع أن التاريخ الى حد كبير هو طريقة لاستقراء حركة الواقع، وفي شأن مثل شأن الربيع العربي أجد أن هناك أهمية هائلة لقراءة التاريخ العالمي وكيفية تقدم الامم ولشعوب ودخولها وخروجها من ثورات وانتفاضات فشلت أو نجحت في تحقيق اهدافها، لا أريد هنا أن ادخل في سرد مفصّل حول تاريخ الثورات، لكن أجد انه من المستحيل تحليل أي تغييرات على مستوى التغييرات التي يمر فيها الوطن العربي دون قراءة لطبيعة حركة لتاريخ.
إن كلمة الربيع قد أخذت من الثورات الاوربية في 1848 والتي سميت بربيع الشعوب، وللعلم فهذه الثورات قد عمّت أغلب دول اوروبا في ذلك الحين، ومع ذلك فقد كانت نتائجها المباشرة بسيطة ولا تكاد تذكر، ونستطيع منذ هذه اللحظة ان نكون مطمئنين حين نقول ان نتائج الربيع العربي أكبر بكثير من نتائج ربيع الشعوب، ومن الثورات التي اعتقد بأهمية ذكرها دائما هي الثورة الفرنسية العظيمة في 1789، حيث انه وبعد قيام هذه الثورة العظيمة على الملكية ببضع سنوات وتحديدا في عام 1804 ولسخرية القدر انهارت الجمهورية وأعلنت الامبراطورية، ثم بعد ذلك عادت الملكية لتحكم حتى 1848 حيث تم اعلان الجمهورية الثانية والتي عاشت 3 سنوات فقط حتى العام 1852 لتعود الملكية ثانية وتستمر حتى 1871.. لقد قمت بذكر كل هذه التواريخ المملة حتى أشير الى مقدار المعاناة والوقت الطويل الذي اخذته الشعوب الاوروبية حتى وصلت الى ما نراه حاليا من التقدم على كل الصعد.
هذا هو حال معظم الثورات والانتفاضات عبر التاريخ ، فمن طبائع الامور أن التغييرات الشاملة تستغرق وقتا طويلا جدا ومعاناة هائلة، هذه هي الالام المخاض التي لا بد ان تعاني منها الحضارات والشعوب حتى تشهد ولادة فجر التقدم والحداثة، وهذا هو تحديدا ما تعاني منه الامة العربية الان، وهو الذي ستستمر بالمعاناة منه اذا ارادت التقدم والخروج من العصور المظلمة التي عشناها وما زلنا نعيشها حتى اللحظة.
لقد رأينا في سياق انتقاد الربيع العربي كثيرا من الاراء التي يعوزها المنطق والقراءة العلمية للواقع، بعضها مبرر وبعضها يوضّح حجم المعاناة التي تعيشها الامة العربية وحجم التخلف الفكري الذي نعيشه، واكبر الامثلة على هذا من يرى أن كل ما يحدث بالوطن العربي هو مجرد مؤامرة، ولن أقوم بنقاش هذه الفكرة لسخافتها، وسأذكر هنا انتقادين اساسيين يتم اللجوء اليهما كثيرا، اولا: الخوف من صعود احزاب الاسلام السياسي الى الحكم وخاصة الاخوان المسلمين والسلفيين وما سيؤدي به هذا الامر من كوارث على الامة العربية وتخلف يضاف الى تخلفها.
إن الخوف من الاخوان المسلمين هو خوف مبرر، بسبب ما يحمله هؤلاء من ايدلوجيا غير قابلة للتطبيق في واقعنا، ولا داعي للكلام عن السلفيين بالطبع، لكن هذ الخوف رغم انه مبرر فهو ليس سبب كاف لرفض الثورات العربية، فكما ذكرت قبل قليل، التغييرات الشاملة والثورات لا تسير بطريق مستقيم نحو التقدم، فالثورات والتقدم تمتلك ديناميكيات معقدة لا بد من مراعاتها، ولهذا بالضبط تكلمت عن الثورة الفرنسية وربيع الشعوب.. إن قدوم الاسلاميين أو غيرهم ممن نرى فيهم خطوة للوراء هو مرحلة طبيعية لا بد منها لنسير خطوتين للامام، هذا هو حال الثورات عبر التاريخ، وحال التقدم الحضاري، فعلى الشعوب أن تتعلم من التجربة ما هو الاصلح لها وعندها سنرى أن الاخوان المسلمون إما سيزولون من الوجود أو سيغيرون الكثير من أفكارهم، أما مجرد رفضهم وقمع الانظمة لهم فلن يوصلنا الى أي مكان سوى ما وصلنا إليه في آخر 100 عام من تخلف، ومن هنا تأتي أهمية الربيع العربي، فهو الذي سيكشف الصالح من الطالح ويترك المجال امام الشعوب لتكمل ثوراتها الى الامام.
الانتقاد الثاني: هناك من يرى أن ما يحدث يتيح الفرصة لتدخل القوى الغربية واسرائيل في شؤون الامة لتوجيها حسب مصلحتهم، وأقول في هذا، متى كانت هذه القوى خارج ما يحدث في الوطن العربي والاهم متى ستكون خارجه، أن ما حدث وما سيحدث ستكون للقوى الغربية واسرائيل يد فيه، ولو فرضنا جدلا على سبيل النقاش أن الثورات العربية لم تحدث الان بل بعد بضعة عقود، فما الذي كان سيتغير، ربما كانت القوى التي ستتدخل مختلفة ولكنها ستتدخل لمصلحتها ايضا، وهذا ما يقوله المنطق والتاريخ، فعبر تاريخ البشرية ومنذ ان ظهرت الحضارات على وجه الارض، كانت هذه الحضارات تتدخل في شؤون بعضها كل لمصلحته، فهل يجب على الامة أن تؤجل أي تغيير الى الابد ؟! لكن التاريخ يقول لنا ايضا أن الشعوب تتحرك لمصلحتها وتفرض خياراتها وتدخل في صراعات مستمرة مع القوى الخارجية، وهذه احدى ديناميكيات الثورات والتغييرات التي لا بد من وعيها.
إن ما أريد قوله هو أن الثورات والتغييرات عبر التاريخ تسير بخط متعرج، وحتى قد ترجع الى الوراء بشكل مؤقت، لكن المسير والتحرك بحد ذاته هو أمر محتوم، ,ان لم تتحرك الامة بعد سبات دام 100 عام فمتى اذا، قد نتقدم وقد نتراجع، وقد نتحرك الى اليمين أو اليسار، لكن المهم في هذه المرحلة اننا نتحرك بعد سباتنا الطويل، وهذه الحركة بالتأكيد ستكون مؤلمة لكنها محتومة ولا بد منها، فطريق الالف ميل تبدأ بخطوة، ولا زلنا نسير خطواتنا الاولى ونتعثر بها.. وأخيرا أقول إن الشعوب غالبةٌ على أمرها ولو كره أشباه المثقفين.