زيف العقلية "الثورية"
لقد قمت بقراءة مقالة الرفيق ضرغام الهلسة المنشورة بتاريخ 17- 2- 2013 بعنوان "زيف العقلية الثائرية" بتمعن شديد، وسأحاول نقاش الافكار الواردة في المقال من على أرضية الفكر الماركسي العلمية، لكني سأقوم بالقفز عن الجزء الاول من المقال لسببين: الاول أني أتفق مع الرفيق فيما ورد في هذا الجزء عن السرد التاريخي لنشوء مصطلح اليسار أثناء الثورة الفرنسية، ثانيا: أنني مهما حاولت لم أستطع أن أخرج بعلاقة واضحة بين هذا الجزء والجزء الثاني من المقال المتعلق بالثورة السورية.
هل فعلا أن اليساري الذي يقف مع الثورة السورية هو يساري قد أضاع البوصلة؟ في اعتقادي أن العكس هو الصحيح، وأن الموروث التاريخي للادبيات اليسارية العربية المصاغة على مقاس الفكر القومي في بعض الاحيان وعلى مقاس رغبات الاتحاد السوفيتي، وغياب العقلية النقدية الجدلية هو الذي أدى الى إضاعة البوصلة عند الكثير من اليساريين ليصلوا حد دعم الانظمة القمعية العربية على حساب شعوبها، حتى وصلت الامور الى التعلق بفكرة المؤامرة باعتبارها محرك التاريخ عندنا، ويتغاضون عن الفكرة المركزية في الماركسية وهي الايمان بالشعوب المقموعة المسحوقة وقدرتها الدائمة على التحرك للأمام نحو عالم أفضل.
من هم أعداؤنا؟ سؤال في غاية الاهمية طرحه الرفيق في مقاله، وهو سؤال أخذ مكانه مركزية بشكل دائم في الادبيات اليسارية، وتنبع أهمية هذا السؤال كونه يحدد لنا معسكر حلفائنا وأعدائنا، لكن وحتى لا نبقى في إطار الشعارات المحفوظة يجب طرح سؤال مهم، كيف نحدد أعدائنا؟ وعلى البساطة الظاهرية لهذا السؤال، فقد كشف التاريخ الطويل للعمل اليساري والازمة السورية بالذات أن جواب هذا السؤال عند الكثيرين غير واضح بسبب غياب العقلية النقدية التي من واجبها البحث المعمق في الاسئلة دون اللجوء فقط الى الاجوبة الشعاراتية الجاهزة.
كيف نحدد أعداءنا؟ تحديد الاعداء يتم بناء على قراءة لجملة التناقضات القائمة بين القوى الداعمة لحركة التاريخ والقوى التي تسعى لتأبيده، القوى التي تقف كداعم للتطور الحضاري التاريخي والقوى التي تقف في وجه، الكيان الصهيوني هو عدو لانه عبارة عن كيان عنصري ذو دور وظيفي في المنطقة لتكريس السيطرة عليها ومنعها من التطور، السياسة الامبريالية للولايات المتحدة تلعب أيضا نفس الدور، هم أعداء لأنهم يقفون في وجه التاريخ والتطور التاريخي، أعداء لأنهم يسعون لتكريس مصالح طبقات معينة ذات مصلحة في تخليد الوضع المتخلف القائم، اذا التناقض معهم هو تناقض رئيسي وتناحري، لكن هل هم فقط أعداءنا؟
كما ذكرت سابقا فالعداء ينشأ من على أرضية المصالح المتنازعة، ليست فقط القوى الخارجية هي التي تقف في مواجهة مع التاريخ وتسعى لتأبيده، بل أن الاهم والاكثر تأثيرا هي القوى الداخلية والصراع الداخلي، هذا ما يقوله المنطق وما تقوله الماركسية بالضرورة، أليس التناقض الداخلي هو المحدد الرئيسي لحركة التاريخ والتطور، أليس هذا ما يقوله التاريخ والفلسفة الماركسية، إن مفاهيم التناقض الرئيسي والثانوي هي مفاهيم جدلية وليست شعارات محفوظة، هي في حالة تغير وتبدل دائم، لكن عندما يحتدم التناقض الداخلي فهو صاحب التناقض الرئيسي هو التناقض المسؤول بالاساس عن التغير والحركة، والتناقضات الاخرى في تلك اللحظة تأخذ مكانة ثانوية بالنسبة للتناقض الداخلي.
هذا لا يعني التقليل من حجم وأهمية التناقضات الاخرى، الصراع مع الاعداء مستمر ودائم طالما هناك سعي نحو التقدم، لكن السؤال هنا يصبح سؤالا منطقيا، كيف سنواجه الاعداء في ظل أنظمة غير قادرة على تقديم شيء لشعوبها، وهل المسؤول عن المواجهة هي الانظمة الممثلة لشعوبها ولطموحاتها ولطبقاتها الاكثر تقدمية أم هي الانظمة القمعية العائلية أنظمة الطوائف والمشايخ العربية؟ أعتقد أن الجواب واضح، لكن اذا كان بهذا الوضوح فلماذا كل هذا الخلط؟
الخلط ناتج من رؤية نظرية كانت صحيحة في وقتها، وهي أن هناك بعض الانظمة التي يمكن بناء علاقة تحالف وصراع معها في نفس الوقت، أنظمة برجوازية صغيرة، تعبّر عن نفس ثوري تحرري معادي للصهيونية والامبريالية، هذه النظرة التي كانت سائدة في ستينيات القرن الماضي كان لها وجاهتها في وقتها، في حينه اعتبر النظام السوري أحد هذه الانظمة، لا يقدم الكثير، لا يمكن أن يكون ثوريا، لكن في ظل الصراع العالمي والحرب الباردة وضغط الدول العربية الرجعية يمكن اعتبار العلاقة علاقة تحالف وصراع، لكن المياه تحركت تحت الجسور منذ بدء الربيع العربي، فلأول مرة منذ 100 عام نرى الشعوب العربية تثور على كل الانظمة، لأن كل الانظمة لم تقدم شيءً حقيقيا لا للصراع وبالطبع لم تقدم شيئا أيضا لشعوبها، فإذا كانت العلاقة في الماضي علاقة تحالف وصراع، فهذا يعني أن هناك صراعا مع هذه الانظمة، لأنها وحسب الرؤية الماركسية في وقته لن تستطيع تقديم الكثير بسبب طبيعتها، وما زالت هذه النظرة صحيحة، أيها السادة الان هو وقت الصراع.
القضية الفلسطينية هي مركز الصراع، ليس بسبب بعد ميتافيزيقي ديني أو مجرد حنين قومي وطني، بل لانها رأس حربة في المواجهة مع عدو يمثّل خطرا على المنطقة بأكملها، والسؤال الذي يطرح نفسه هل استطاعت كل الدول العربية تقديم شيء في هذا الصراع غير الخسائر المتواصلة؟ هي لم تقدم شيء غير الكوارث، وهذا واضح من التاريخ، لكنه واضح أيضا عند تقديم تحليل ماركسي علمي نظري لطبيعة هذه الانظمة، ومن هنا بالذات خرجت مقولة التحالف والصراع، فلسطين لن تتحرر بمجرد تقديم دعم بسيط للمقاومة هنا أو هناك، فلسطين تحتاج للشعوب الحاكمة بأمرها، الحرية تحتاج لأحرار، وليس لأناس مستعبدين عند أنظمة استعبادية، ولهذا بالذات لم تستطع الانظمة تقديم شيء يذكر، فكيف للدول المتخلفة أن تقاوم، لا اقتصاد ولا تكنولوجيا، ولا شعوب حرة، والذي حدث أثناء غزو العراق في 2003 مثال في غاية الاهمية، عندما رمى الجنود العراقيون أسلحتهم وتقدمت الجيوش الامريكية بدون مقاومة تذكر لتدخل بغداد، فلماذا تقاتل الجماهير ومن أجل من؟ هل هذه أنظمة قادرة على التحرير أو المواجهة، هي في أفضل الاحوال قادرة على تقديم دعم بسيط لإدامة الصراع، فكيف ستحرر الجماهير الارض وهي محتلة من الداخل.
يعتبر البعض بقاء بعض الانظمة العربية مثل النظام السوري ضمانة لمنع وصول الاسلاميين الى السلطة وكذلك ضمانة لمنع التدخل الامبريالي بشكل كامل، ولو سمعت هذا الكلام من أي شخص لفهمته، لكن أن يخرج من شخص يساري فهذا هو العجب العجاب، فهل فقد اليسار ثقته بالجماهير الى هذا الحد!! هل تحتاج الشعوب العربية الى أنظمة وصاية تفرض بالحديد والنار آراءنا وأفكارنا !! طبعا هذا ليس غريبا عن طريقة التفكير السوفيتية ولكنه أبعد ما يكون عن اليسار المؤمن بالشعوب وبالمسار التقدمي للتاريخ. المؤامرة في سورية قائمة والتدخل يجري الان، لكن هل هذا مبرر لرفض حركة الشعوب والجماهير!! هل فعلا هناك من يعتقد أنه سيأتي وقت علينا نستطيع فيه إقامة ثوراتنا بالمريخ !! هم أعداؤنا ولهذا سيتدخلون وهذا أمر طبيعي، وسيخرج من يوافقهم ويتعاون معهم من الداخل وهذا أمر طبيعي أيضا، لكن هذا من طبائع الامور، وهذا ما يجب مواجهته وهو جزء من الثورة والصراع، وما يحدث الان في دول الربيع العربي ما هو إلا دليل على مقدار وعي شعوبنا، وعلى مقدار تقدمها في فترة قصيرة.
ربما يقول البعض إن ما يحدث في سوريا هو كله نتاج للتدخل الخارجي، أي نظرية مؤامرة مكتملة، والغريب في الامر أنهم لا يقولون ذلك عن مصر وتونس، فشعوب مصر وتونس والاردن من حقها التحرك من أجل التغيير، ويجب أن لا تفاوض أو توافق على أي تنازلات، لكن على الشعب السوري أن يبقى خانعا، وقد يقول البعض إن ما يحدث في سوريا مجرد تحرك لبعض الجماعات الاسلامية المدعومة من الخارج يشاركها عملاء الخارج والداخل، فهل هذا معقول !! التحرك السوري بدأ جماهريا سلميا وتحول الى صراع مسلح بسبب طبيعة النظام السوري التي لا تقبل معارضة أو رأيا، والكل يعلم ما هو النظام السوري وما هي عقليته الامنية، واذا كان النظام السوري غير قادر على مواجه بضعة مئات أو ألوف من الاسلاميين المدعومين عسكريا بشكل غير مباشر وغير مدعومين جماهريا، فهذا له دلالة مهمة، وهي مقدار ضعف هكذا نظام، ومقدار ابتعاد الجماهير عنه، لكن ما يحدث في سورية أكبر من ذلك بكثير.
المؤامرات قائمة الان وقادمة في المستقبل، الجيش الحر والمعارضة السورية ليسوا ملائكة أطهارا، فمنهم الاسلامي المتطرف ومنهم العميل، لكن هذا لا يعني أنهم يمثلون الشعب السوري، ولا الشعوب العربية التي رأينا الى أين وصلت علاقاتها بالاسلاميين في دول الربيع العربي، الشعوب العربية ستستمر في الدفاع عن مصالحها، والثورات والربيع العربي ككل ما هو إلا أول الخطوات في طريق الالف الميل، بعد أن رمتنا الانظمة العربية ألوف الاميال الى الوراء، والبديل عن التغيير والثورة الان هي الخنوع والاستسلام للأمر الواقع واستمرار مسلسل الجهل وإعادة إنتاج الجهل والتخلف والقمع الذي برعت الانظمة العربية في إخراجه عبر الزمن.
لقد قلت في مقالات سابقة أن الخوف من الاسلام السياسي هو خوف مبرر وكذلك الخوف من التدخل الامبريالي، لكننا في مرحلة حضارية تستلزم من شعوبنا خوض الكثير من الصراعات من أجل التقدم، فخياراتنا هي بين تأبيد الوضع القائم، أو الايمان بالتاريخ والشعوب والتقدم الى الامام لكي تخوض هذه الشعوب صراعاتها التي لا مفر منها في النهاية، ما يحدث في سوريا هو صراع حضاري، هو تغير حضاري في سياق الربيع العربي الشامل، جماهير ثارت من أجل التغيير والتقدم، التقدم الذي لن يأتي مباشرة ولا بخط مستقيم، بل هو نتاج صراع سيكون طويلا ومريرا، صراع تكلم عنه اليسار طويلا وانتظره طويلا، لكن بئس هذا اليوم الذي نرى فيه اليسار يقف في مواجهة الجماهير، بئس هذا اليوم الذي يدعوا فيه اليسار الى تأبيد الوضع القائم نتيجة خوفه من الجماهير وقله من إسلامييها، بئس هذا اليوم.