"التيار الخامس" .. حكومة "قوس قزح" خلفاً للرزاز يجمعها برنامج وطني توافقي
ايهاب سلامة
جو 24 :
الدولة التي تخلو من النخب، والقيادات الكفؤة المبدعة، تُقاد بمؤسسات الدولة العميقة، وتُوَلى مناصبها عادة، لصور كاريكاتورية، تدار وتحرك بخيوط الخفاء، لا قيمة قيادية لها، سوى أنها تنفذ التعليمات والأوامر ..
والدولة التي تخلو من مطبخ لصناعة القادة، تحيا مفلسة، متخلفة، ولا يمكن لمستقبلها أن يكون أفضل من ماضيها، ما دامت السياسات ثابتة، والشخوص وإن تغيرت، تحمل نفس الجينات العقيمة..
يدرك، أو ربما لا يدرك، صناع القرار في الدولة، أن الاردن يحوم في فلكه الآن أربعة تيارات متجاذبة، تبدأ بالاسلاميين، الوحيدين المؤطرين بشكل سليم، الذين يمتلكون برامجهم السياسية والإقتصادية والإجتماعية، بصرف النظر إن اختلفت او اتفقت معهم وعليهم ..
الإسلاميون الآن، يقبعون في مرحلة البرزخ، وتراجعوا خطوات محسوبة بدقة متناهية إلى الوراء، بعد أن نال تنظيمهم العالمي ضربات لا أوجع منها عبر تاريخهم، فقرأوا مشهدهم الداخلي بواقعية صرفة، وانكفأوا على أنفسهم، ودخلوا في مرحلة كمون سياسي، لوعيهم جيداً، أن البديل في هذه المرحلة بالذات، هو الصدام مع الدولة، في وقت يمرّون فيه بأضعف مراحلهم، مترقبين المتغيرات السياسية الخارجية، علّها تسعفهم قليلاً داخلياً، وتعيد ألقهم إلى ميدان العمل السياسي.
وكما هو مؤكد ومعلوم، فإن الإسلاميين ليسوا على أجندات خيارات الدولة، وربما تكون مشاركتهم النيابية المتواضعة، مطلوبة لإضفاء شرعية أكبر على السلطة التشريعية ومخرجاتها، سيما أنه كان متوقعاً تمرير صفقة القرن بهذه الحقبة البرلمانية، على غرار حقبة "وادي عربة"، إلا أن حجمهم الآن، مفصّل وفق محددات هندسية لا تقبل الزيادة بمليمتر واحد، بحيث تضمن بقاءهم تحت السيطرة، وداخل مساحة خطوط التماس، المحددة لحركتهم، طولاً وعرضاً وارتفاعاً ..
تراجع الاسلاميين إلى الخلف، تزامن مع غياب تيار ثان، وانسحابه من الحياة السياسية، في تأويلات تحمل عدة أوجه، وبات ما يطلق عليهم "الحرس القديم"، أو "المحافظون" اليمينيون، برموزهم ونخبهم، خارج التغطية تماماً، مع وصول العديد منهم إلى خريف العمر، الذي له حساباته الخاصة، في وقت، لم يُصنَع صفاً ثانياً لهم ومنهم، يحمل راية إرثهم، وانتهاج خطهم السياسي التقليدي، الذي له ما له، وعليه ما عليه ..
قد يفسر البعض، إنسحاب نخب وقيادات وطنية تقليدية من المشهد، نوعاً من الإنتقام، أو صرخة لاعادة لفت الإنتباه، والاعتبار أيضاً، في وقت شعروا فيه بالتنحية، وليس انسحاباً طوعياً لهم، لصالح "تيار ثالث"، تشكل على أشلائهم وأشلاء الإسلاميين معهم، وأقصاهم، وهو التيار العلماني المدني .. الذي للإنصاف، لا يصح تسميته بـ"التيار" بعد، لعدم بلوغه سن النضج السياسي، لينال هذا التوصيف بكامل دسمه، إلا أن الفراغ، يمتلىء عادة بالمتاح، ومقتنصي اللحظة والفرصة، وهو أمر مشروع في لعبة السياسة ..
التيار المدني، تُعشعش فيه هو الآخر، تناقضاته وتجاذباته الداخلية، ولم يصل إلى مرحلة التبلور الكافية، فلم يقدم رؤى عميقة، ولم يطرح الحلول، واكتفى بالتنظير وتشخيص العلّة والمشكلة، وظل خطابه مقتصراً على ترديد ذات الشعارات الليبرالية المستهلكة منذ عقود، مغازلاً مواضع المجتمع الرخوة، مستميتاً في استقطاب هذا وذاك، بخطابات فضفاضة رنانة، منتقاة بدهاء، وعلى مقاس الضغوط والتراكمات التي أرهقت جيوب وحريات الأردنيين الباحثين عن أي طوق نجاة يلقى لهم ..
التيار المدني، خليط من العلمانيين واليساريين والليبراليين التقليديين والجدد الخ .. الذين قرأوا عند «شيخ» واحد، وتخرجوا من ذات المدرسة الفكرية الهجينة على مجتمعات ما زالت ترفض الفكرة، وإن قُدمت لها مغلفة بأوراق السولوفان والفضة ..
العجيب في الأمر، أن "التيار الرابع"، ان صحّ تسميته بذلك، لا يخصع لأي من التيارات السابقة .. ولا ينقاد لها، ولا يأتمر بامرتها، أو ينصاع لايديولوجياتها، ومعتقداتها السياسية، ومفاهيمها الفكرية او الاجتماعية، وهو إن جاز تسميته بـ"التيار الشعبي" .. الذي تشكل وفق خوارزميته الخاصة، غير المسبوقة في الحياة السياسية الأردنية، فهو يتجاذب على منصات مواقع التواصل، بشكل عشوائي بداية، ثم يتجمع كالفسيفساء تباعاً، قطعة قطعة، ليشكل تلقائياً، تياراً اجتماعياً وسياسياً شعبياً جارفاً، ويتحكم في الرأي العام، ويوجهه، ويحدد ساعة صفره، وينطلق!
"تيار منصات التواصل الاجتماعي"، من المؤكد والطبيعي أن جميع التيارات السياسية في الساحة، تحاول توظيفه، كل بما يخدم أجندته، مثلما تحاول أن تركب أمواجه، إلا أنه في واقع الحال، في حلٍ من جميع التيارات، وبريء من سيطرتها، وأجنداتها، بخطاباتها وقياداتها، التي ملّ الناس منهم ومنها.
والحقيقة، ان الأمر في غاية التعقيد والخطورة، فالدول تفضل الإشتباك مع التيارات السياسية المؤطرة، التي يمكن مفاوضتها هنا واحتوائها هناك، أو حتى قمعها وإخمادها، بينما فرضت ثورة الإتصال والتكنلوجيا، تياراً سياسياً شعبياً هجيناً، ينظم نفسه بنفسه، ويقود ذاته بذاته، لا رأس أو ذيل له، أربك المعادلات الأمنية التقليدية وحساباتها، فمع من ستتفاوض الدولة أو تخاطب، في لحظة اشتباك سياسي يصل امتداده إلى الشارع مثلاً ؟
الدوار الرابع، الذي أسقط حكومة الملقي، في ظل غياب الاسلاميين عن قيادة الشارع، وهو أمر له سلبياته مع أجهزة الدولة العميقة، التي كانت تفاوضهم سابقاً، وتصل إلى "تراضيات" نسبية معينة معهم ، فيفضوا سامر الشارع الذي كانوا يقودونه، باسلامييه وغير إسلامييه، وبمن تواجد ذاك اليوم في المكان واللحظة ..
النقابات المهنية التي امتطت ظهر الدوار الرابع، رغم أنها بريئة منه، في أحداثه التي أزاحت حكومة الملقي، كان وجودها مدعاة ضرورية، لتفاوض الدولة احداً يمثل الشارع، ويقوده، ولو اقتضت الضرورة إلى إيجاده وصناعته !، دون ذلك، فالبديل مفاوضة الخواء .. أو مفاوضة ناشطين حراكيين مثلاً، لا يمكن بحال من الأحوال، التوافق على أنهم من يقودون الشارع، مثلما للأمر محاذير سياسية بالغة التعقيد في عقلية الدولة، لانه ببساطة يعني، منح الحراك شرعية سياسية، الأمر الذي تعيه الدولة جيداً ..
إبتعاد الاحزاب، أو إبعادها، في ظل غياب أزلي للبرلمان عن ميدان الحدث، يدفع باتجاه انقياد الشارع دوماً وتلقائياً إلى مواقع التواصل، بغوغائيتها، وتوظيفاتها الايديولوجية، وعشوائيتها، وفوضاها المنظمة، ويضع زمام الدولة في يدي "مارك زوكربيرغ" ذاته !
هذا الغياب، أو التغييب، للأحزاب والقوى السياسية، والنقابية الأصيلة أيضاً، لا يخدم الدولة من بعيد أو قريب، مثلما ينسف شرعية أطر سياسية، ويهدم الثقة بها، وتصبح عالة هي الأخرى على الدولة، بدلاً من إسهامها بتصريف احتقاناتها وتفريغها ..
ربما نكون اليوم، أحوج الى "تيار خامس"، تنبثق منه حكومة بألوان "قوس قزح"، تجمع تحت مظلتها، مختلف أطياف اللون والتيارات السياسية، يكون القاسم بينها، برنامج عمل وطني مشترك، سياسي، اقتصادي، اجتماعي، الخ، بوصلته تنفيذ كتب التكليف السامية بحذافيرها، وتجسيد مشروع النهضة الوطنية الشاملة، بعيداً عن الايديولوجيات الضيقة، وحكومات البيروقراط، واليسار واليمين، والنمطية الشللية الدارجة، تشارك بها، مختلف القوى السياسية، ممزوجة بشخصيات وطنية كفؤة، ومطعّمة بأخرى شعبية فاعلة، ومنكّهة بكفاءات أكاديمية علمية واقتصادية، تخلف حكومة الرزاز التي وصلت قاب قوسين من الهاوية.
ربما هذه التوليفة السياسية، هي الأنجع مرحلياً، ومستقبلياً أيضاً، والمسار الوطني الأسلم، ليتحمل الجميع مسؤولياتهم الوطنية، ولا يلقي أحداً تبعات الفشل أو الأخفاق على الاخر، وتتوزع المسؤوليات وتبعاتها على الجميع، بحكومة قوى سياسية وطنية موحدة، تجتمع على برامج عمل توافقية خلاقة، تقلص فجوة التجاذبات، وتمزق الأجندات العابرة للقارات، والأهم، تهدر حقبة حكومات الشلل والمحافل!