ترهات التشبيه بالمدارس الأوروبية في استقبال العام الدراسي
د. محمد أبو غزلة
جو 24 :
يبدأ العام الدراسي في هذه السنة وسط ظروف صعبة ومتوقعة يدركها عامة الشعب أكثر من المسؤولين في القطاع التعليمي، وذلك نتيجة فشل السياسات الحكومية التي ألقت بظلالها على الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأدت إلى تراجع قدرة المواطن على تلبية متطلبات الحياة اليومية.
كما يبدأ العام الدراسي أيضا في ظل تصعيد لوّحت به نقابة المعلمين قبل خمسة أشهر ولم تكلف الوزارة أو الدولة نفسها بالتخطيط للتعامل معه وفق منهجية علمية تراعي فيها حقوق المعلمين والمتعلمين، وما الاجتماع الوحيد الذي جرى قبل أسبوع وغلب عليه لغة التحريض والتهديد ببعيد عن فشل العقلية في التعامل مع الحدث، فالحكومات المتعاقبة ونتيجة العقلية المتسلطة لم تتمكن من التعامل مع استحقاقات اضراب المعلمين، ودائما تسقط في ادارتها للأزمات المتلاحقة نتيجة لجوئها لتهديد المعلمين بالأنظمة، وما الدعوات المستمرة لاضراب المعلمين إلا نتيجة هذه السياسات المتكررة، علما بأنه كان بالإمكان منع هذه الإضرابات منذ عام 2005 عند اقتراح المسار المهني الحقيقي للمعلم ينظم العلاقة المهنية بين المعلمين والوزارة في اطار من المسؤولية والمساءلة، وبما يكفل حقوق الطرفين، وليس على غرار النسخة التي تم إعداها وفق العقلية السلطوية، وتنصب العداء للمعلمين والذي استمر أيضا وأدى إلى رفض نظام السلك التعليمي الذي تم تطويره عام 2007 بالتعاون مع وزارة تطوير القطاع العام على غرار السلك القضائي والسلك الدبلوماسي انطلاقا من أهمية دور المعلم الحيوي في بناء المجتمع.
في بداية كل عام دراسي نسمع جعجعة من المسؤولين في وزارة التربية والتعليم دون أن نرى طحنا، فتدبّ الفوضى التي تصاحب بدء العام الدراسي، ويبدأ السباق ومحاولات اللحظات الأخيرة لتدارك الموقف، ولعل ما أطلقه مسؤولو الوزارة من تصريحات تبرر القصور المتوقع في الاستعداد العام الدراسي ورده إلى ارتفاع عدد الطلبة من طالبي النقل من المدارس الخاصة إلى المدارس الحكومية دليل على ذلك، رغم علم جميع المراقبين أن هذه الأسطوانة المشروخة تتكرر كل عام، ولم يعد التذاكي الذي يمارس من رئيس الحكومة أو طاقم المسؤولين فيها بما فيهم القائمين على قطاع التعليم مقبولا من قبل الشعب الأردني بعد أن تعرّت كل السياسات التي تمارسها الحكومة وطواقمها، ولعل ما صرحت به الوزارة على لسان مسؤوليها بأن مدارسها تضاهي المدارس الأوروبية بجودة التعليم ونوعيته وتوفر المباني كان بمثابة الغضبة لدى كافة الأردنيين، وأصبحت من أكبر ترهات هذا الزمن، وأكدت على أن المسؤولين في هذه الوزارة لا يعلمون شيئا عما يجري في الميدان التربوي، وقد اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي التعليقات الساخرة والمؤيدة لمحاسبة مطلقيها بعد أن انتشرت صور للمدارس التي لا تليق بالمواطن الأردني وتنذر ببداية عام دراسي سيء للغاية، لكن صمت الحكومة ومسؤوليها على هذا التصريح يؤكد مرة أخرى على أن الترهات هي الديدن للساسة، وإن الجميع يستخف بعقول الأردنيين، والسكوت على التصريح يؤكد الأكذوبة التي يتشدقون بها بأن التعليم هوالأولوية الوطنية ومفتاح التغيير وأنه الأداة لتطوير حياة المواطنين وتحقيق التنمية المستدامة.
لقد تعرضت الوزارة خلال الأعوام الأخيرة، لهزات تربوية تكررت وجرى ترحيلها سنة بعد سنة، وهي ناتجة عن ضعف القائمين على إدارة شؤون الوزارة، رغم وجود أدوات لتفادي هذه الهزات، إلا أن استمرار غياب التخطيط السليم المبني على المعلومات العلمية الاستشرافية المعتمدة على متغيرات عدة، كالنمو السكاني والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وعودة الطلبة مع ذويهم من دول عربية وأجنبية كانوا يعملون بها، وهجرة الطلبة من المدارس الخاصة بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية، ناهيك عن عدم وعيهم لنزوح أعداد من طلبة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في ظل وضعها الصعب حاليا، بالإضافة لأسباب أخرى، كتأخر أعمال الصيانة المدرسية المتعثرة باستمرار، وعدم انجاز الأبنية التي يتحدثون عنها، وهم لا يفرقون بين الحاجة الحقيقة، وبين ما يتم تنفيذه، كما أن غياب المساءلة وإجراءات المحاسبة؛ بعد ما شهده الميدان التربوي من تقصير عبر هذه الأعوام سيقود إلى نفس النتيجة كل عام، فما على الوزير فعله في ظل استمرار العقلية التي تتحكم بإدارة ملفات وعمليات الوزارة، وهي تفتقر لأبسط المهارات والقدرات لإدارة النظام التعليمي؟ وما على رئيس الحكومة الذي يتبنى مثل هذه العقليات أن يفعل لمواجهة نقص البنية التحتية، وسوء المتوفر منها، وعدم مناسبته كبيئة تعليمية نتيجة الاكتظاظ في الصفوف الدراسية، واستمرار تدفق الطلبة، واستمرار مدارس الفترتين، والمستأجر، وتدني نوعية التعليم؟ ولماذا تصر الوزارة على وضع الرأس في الرمال وعدم الاعتراف وزج مديري المدارس بمواجهة الأهالي لقبول الطلبة؟ وهل القسم الذي يقسم به مدراء المدارس لأولياء الأمورعن عدم توفر متسع لأبنائهم بات يقنعهم في ظل انتشار الفساد والكذب والمحاباة وغياب العدالة الاجتماعية؟!
ثم ما عسى الوزارة أن تبررفي نقص الكوادر البشرية من الإداريين والمعلمين نتيجة الحاجة السنوية والتي يعاني منها الميدان التربوي باستمرار؟ وما التبرير الذي ستقدمه الوزارة بعد تفاقم هذه المشكلة بعد قرارات التقاعد التي طالت العديد من مديري التربية والمساعدين والإداريين والمعلمين في الميدان التربوي؟ فالوزارة أخفقت في السنوات السابقة دون وجود مثل هذه الأسباب فما هي فاعلة الآن؟ وهل سيشفع التحشيد والاستعانة لها بالطلب بعدم الكتابة عن أية مشكلات تصادف بدء العام الدراسي لتصر على وضع الرأس في الرمال؟ وهل سنشهد مساءلة من قبل الوزير في حال تم اطلاعه عليها أو لم يتم وهذا ما يجري في العادة، وهل ستكون لدي الوزير الرغبة في الاطلاع على الإخفاقات وعدم إنكارها واتخاذ القرارات المناسبة.
إن إيجاد بيئة مدرسية متميزة متكاملة آمنة في بدء العام الدراسي يتم من خلال تهيئة الميدان التربوي وتوفير متطلبات العملية التربوية والتعليمية في جميع المدارس ومن جميع الجوانب، ويتطلب الاستعداد المبكر لبدء عام دراسي مكتمل مادياً وبشرياً اجراء دراسية تشخيصية دقيقة لواقع المدارس بعد انتهاء الفصل الدراسي الثاني مباشرة على الأقل في ظل غياب النهج الاستراتيجي في التخطيط الشمولي بالاعتماد على تنبؤات استشرافية ومتغيرات تعد أبجديات للمخطط التربوي، وفي ظل غياب نظام مؤسسي للاستدامة، وسيادة البيروقراطية والتسلط الإداري على العاملين في الميدان التربوي وسلب صلاحياتهم في تعيين رؤساء الأقسام، وإلغاء التنقلات الداخلية التي تأتي لأسباب غير مهنية، ثم كيف لعقلية إدارية تفكر بالجاسوسية أن تقود عملية اصلاح تربوي؟ وهل الحكومة ما زالت تعتقد انها يجب أن تبقى جاثمة على صدور الأردنيين، ومصرة على دعم (...) مثل هذه الإدارات التي لا تعرف إلا لغة التهديد والتي أدت إلى اختلاق العديد من الازمات مع المعلمين، وشوهت صورة النظام التعليمي الذي أصبح مثالا للتندر على وسائل التواصل الاجتماعي داخل الأردن وخارجها؟ وهل تعتقد الحكومة أن ما يحصل في المجتمع من أحداث مؤسفة في الشارع الأردني غير مرتبط بتراجع أداء النظام التعليمي على الانظمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية نتيجة السياسات الفاشلة المتبعة، وهذا كفيل برحيلها دون الأسف عليها..
* الكاتب مدير إدارة التخطيط التربوي سابقا