الأردن.. ديمقراطية بالتقسيط وخواء نخبوي ودولة على رمال متحركة
ايهاب سلامة
جو 24 :
ما هو المطلوب أردنياً لاعادة وضع عجلات الدولة على مسارها الصحيح؟
ما هي الخطوات، والخطط، والاليات، والاستراتيجيات، والأدوات التي تمكن الدولة النجاة من حقول ألغام تقبع عليها منذ أزمنة، وتلقي لها طوق نجاة، وسط أمواج عاتية تتقاذفها، تمكنها من التعافي، والنهوض من كبوتها، لتقدر على مواصلة السير بخطوات ثابتة واثقة، نحو مستقبل لا يحمل في ثناياه الخوف والتوجس والتشكيك.
قبلها، بجب أن نعترف، أن الدولة الأردنية تقف على رمال متحركة، وتسبح في مجال انعدام الجاذبية، وفقدت الكثير من اتزانها، بعد أن أثرت سلسلة سياسات اقتصادية مؤلبة، على صلابة تماسكها الداخلي، وضربت معيشة مواطنيها في مقتل، وأشعلت نفورهم وسخطهم، اضافة لضبابية أفق الاصلاح السياسي، الذي يحاكي طموح الأردنيين وآمالهم، بمشاركة شعبية أوسع في صناعة القرار، ما وضع الدولة مرات عدة في مهب الريح، بعد أن عجزت حكوماتها عن قراءة مؤشر البوصلة الملكية، والتوجيهات الدؤوبة، بايجاد حلول جذرية تنعكس ايجاباً على حيوات المواطنين، وأفرغت جعبتها تماماً من الحل، فلجأت سياسياً واقتصادياً الى حلول ترقيعية، حتى يقضي الله امراً كان مفعولا.
بموازاة ذلك، يكاد يجمع جمهور الساسة الأردنيين، ان أنجع الخطوات نحو طريق تعافي الدولة من غيبوبتها، وانتشالها من كبوتها، يكمن في الاصلاح السياسي الجاد، الذي تراوحت حركته منذ عقود ببن مد وجزر، ويختزلون قاعدته الأساسية بصياغة قانون انتخاب مناسب، يتيح أكبر قدر من المشاركة الشعبية الحقيقية في صناعة القرار، وبالتالي، تحمل الجميع مسؤولياتهم الوطنية، بما يضمن وقف تغول السلطة التنفيذية التي ستخضع حينها لرقابة شعبية برلمانية صارمة، مثلما يطمحون بانتاج الحكومة ذاتها، من رحم البرلمان المنتخب.
واقع الحال، أن النظرية تختلف تماماً عندما تواجه بيروقراطية التطبيق، فالدولة الأردنية لم تهيىء البنية التحتية المناسبة لبرلمان قوي فاعل، ولا لحكومة برلمانية منتخبة، ولا لحياة حزبية مؤثرة، ما سيحتم استنساخ البرلمانات القادمة، من ذات الشخوص المستهلكة، حتى لو صيغ قانون انتخاب وفق أهواء أشد المعارضين له وللحكومة. فالساحة السياسة تخلو تماماً من النخب التي تم تجفيف مواردها، مثلما هي شبه خاوية من الأحزاب الفاعلة القادرة على العمل الجماعي المؤطر، رغم عشرات المرخصة منها بشكل صوري، الا من رحم ربي.
ومع هذا الخواء السياسي النخبوي والحزبي العقيم، فان الحديث عن سلطة تشريعية رقابية قوية مغايرة، وحكومات برلمانية مأمولة، يغدو نوعاً من الدعابة، والترف السياسي. فلا يمكن مطلقاً، انتاج ديمقراطية حقيقية، في ظل غياب الأحزاب، وخلوّ الشارع من القوى السياسية المؤطرة، والنخب المؤثرة، الا اذا أردنا برلماناً وحكومة برلمانية صوريين، يحملان الاسم الفضفاض فقط، لكنهما، سيحملان ذات الجينات البرلمانية والحكومية العقيمة المتوارثة، بأسماء وسياسيات مستنسخة.
غياب الأطر السياسية المؤثرة الفاعلة، وتفرد رأس المال في توجيه دفة الناخب نحو صناديق الاقتراع، وتأثيره على شكل وهوية السلطة التشريعية الرقابية، اضافة لتدخلات تاريخية بلورت شكل السلطة التشريعية بمراحل زمنية منصرفة، شكل جداراً خرسانياً أمام مجرى انسياب الحياة الديمقراطية، بشكل ضمن بقاء السلطة التنفيذية تسبح في بحر النفوذ والسلطة وحدها.
المتحكمون في صناعة القرار، في كل زمان ومكان، يعتبرون المشاركة في حصة من كعكة السلطة، ضرباً من المحرمات السياسية والأمنية، لضمان تملكهم النصاب السلطوي الأكبر في ناصية القرار وتحكمهم فيه.. وهو أمر له تداعياته المعاكسة، ولم يعد يصلح للاستهلاك السياسي المعاصر مطلقاً.
القاعدة الفقهية السياسية السليمة تقول : كلما أشرك المواطنون في صناعة القرار، كلما تشاركوا في تحمل تبعاته!. وبالتالي، لا يمكن لأحد القاء اللوم على الآخر. فالكل يشارك حينها في اعداد الطبخة، وكلما توسعت المشاركة، كلما اتسعت أفق الخيارات، والحلول، وتمتعت الدولة بحصافة وحصانة داخلية شعبية، وخارجية سياسية، تغلق معها جميع الأبواب بوجه كافة التسربات والتشققات التي من شأنها أن تضعف بنيتها ونظامها السياسي والأمني.
والسؤال الذي يطرح نفسه : لماذا الاصرار بالتمترس دوماً وراء بوابات الخوف من توسيع نطاق المشاركة الشعبية في لعبة الديمقراطية وأدواتها؟ لماذا مواصلة العزف النشاز على وتر سياسات عتيقة عقيمة، أوشك تاثيرها على الأفول، ولم تعد تناسب حجم الوعي، وخطورة المرحلة؟
ناقلوا الرسائل المشفرة، دأبوا على ايصال توصياتهم بلغة هيتشكوكية ديماغوجية لصانع القرار. وهو أمر أجّل كثيراً من دوران عجلة التنمية السياسية، بشكل سليم وصحي، وأبقى وراء الكثبان عواصف تنتظر أول لحظة لهبوب الريح، وأسهم بولادة الحراكات، وتأزيم الشارع، وبلوغ احتقاناته حدود الذروة.
الخطوة الصحيحة الأولى لاعادة وضع عجلة الدولة على مسارها الصحيح، يعتمد على توسيع مساحات المشاركة الشعبية الحقيقية في صناعة القرار. تحصيناً للنظام أولاً، وتأميناً لمداخل ومخارج الدولة ثانياً، وتمتيناً للعلاقة بين الشعب وجميع أدوات السلطة في دولتهم.
الحديث عن تمديد عمر البرلمان الحالي، من عدمه، دون تخلي الحكومة ومؤسسات الدولة عن عقلياتها المتشنجة تجاه تطوير الحياة الحزبية في أقصى سرعة، وتمكين الأحزاب قولاً وفعلاً، من النمو الفاعل، ليشتد عودها، وتأخذ وضعها الطبيعي بالمشاركة الحقيقية في الحياة السياسية، تزامناً مع انتاج قانون انتخاب يكفل مشاركتها بمختلف أطيافها وألوانها، سيعيد بث فيلم البرلمان الثامن عشر، على فضائية البرلمان التاسع عشر، بذات الممثلين وكتاب السيناريو والاعداد والاخراج وحتى الكومبارس.. كما سيلبس الحكومات المأزومة نفسها، رداء الحكومة البرلمانية المأمولة مستقبلاً، اذا ما قدر لها الولادة، ويعيد أبا زيد من غزوته، بخفي حنين..
وبما أن واقع اليوم والغد، لا يحتمل أي تسويف وتأجيل، ولا بالمزيد من فئران التجارب حال الأمس الغابر، نظراً للتحديات الجسام التي تواجهها الدولة، داخلياً، بشقيه السياسي والاقتصادي، وخارجياً، بالمتغيرات المفصلية المهولة التي تقف على بوابة المنطقة برمتها، فان مبلغ الحرص الوطني يقتضي باحداث التغيير الجوهري، لا الشكلي، على الحياة السياسية، بما يضمن المشاركة الشعبية التامة في صنع القرار، لا بقاء الدوران في فلك ديمقراطية مجتزأة، مقسطة، أبقت السلطتين، التشريعية، والتنفيذية بمؤسساتها، مختبؤون خلف العباءة الملكية، ليتحمل الجميع مسؤولياتهم الوطنية تجاه دولتهم، واسناد قيادتهم، في أحلك الأزمنة المفصلية التي تمر بها المنطقة والمملكة.
يجب أن ندرك تمام الادراك، أن سياسات الترقيع، وخض القربة، وحقن التخدير، والطبطبة، وخلط الاوراق، والتسويف، والاحتواء، وترحيل الازمات، والقوانين المكممة الضاغطة الخ .. لم تعد مجدية على واقع الدولة الا لغايات تأخير لحظات اصطدام، بتفريغ الاحتقان مرحلياً، والمداواة بالمسكنات، لداء قد استفحل، ومريض ينتظر اعلان وفاته!