"السلام"الإقتصادي.. القضية بحجم رغيف الخبز
من يطلع تمحيصا على ملفات وأدبيات الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية ،وسجل الصراع العربي-الإسرائيلي الذي تقزم مؤخرا بصيغة :الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي،يجد دون عناء ،أن إسرائيل ومن وراءها ،لا يؤمنون بالسلام واقعا يمشي على الأرض،لكنهم يعشقون حتى الثمالة الحديث عن السلام،وهذا هو سر المهنة؟؟!!
ليس جديدا عليهم ،ولا هم يتمرنون على إتقان الدور ،بل هم سادة في تزييف الحقائق ،وإفتعال المواقف،وحصد النتائج بعد تحويل الدفة لصالحهم،ولم لا وقد علموا جيدا أن الآخر سواء كان نحن أم الغرب ،لا يستطيع الوقوف في وجوههم مخالفا أو معترضا.
أوائل القرن المنصرم دعا مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هيرتزل ،إلى إنشاء كومنولث شرق أوسطي إقتصادي ،تكون إسرائيل جزءا فيه ،بمعنى أنه خطط ودبر لكي تندمج هذه الإسرائيل في الشرق الأوسط، وهنا نستطيع القول أن الصهيونية هي اول من فتحت ملف الشرق الأوسط الكبير او الجديد لا فرق،لكي تندمج إقتصاديا ،لأنهم يعلمون جيدا أن من الصعب عليها العيش منعزلة في هذه المنطقة.
بعد هيرتزل جاء العديد من الصهاينة امثال شيمون بيريز الذي أسس على دعوة هيرتزل،ودعا إلى شرق أوسط جديد ،تكون إسرائيل الرائدة فيه،ودعا أيضا إلى الدمج الإقتصادي،وكان كتابه "الشرق الأوسط الجديد"مرجعا مهما لهذا المشروع.
وللتوضيح أكثر ،دعا بيريز إلى التزاوج بين العبقرية اليهودية الإسرائيلية والثروة العربية ،ولعل هذا التعبير يحتوي على إهانات جمة للعرب ،إذ أنه ميز يهود ووصفهم بالعباقرة ،أما العرب فكان نصيبهم وإن لم يقلها صراحة ،أنه خلع عليهم لقب :السذج الذين يستحقون الحجر عليهم والتصرف بأموالهم,ناهيك عن تركيزه على العمالة العربية الرخيصة،التي ستساعد في الدمج الإقتصادي وتكوين الثروات بسبب كثرة إنتاجها ورخص أجورها.
ممنوع الحديث عن السلام السياسي،أو السلام بمعناه الحقيقي،لأن ذلك يبطل المشروع الصهيوني الذي يقوم على الإستيلاء على الأرض دون السكان،لكن المسموح به هو الحديث عن السلام الإقتصادي،وأنا هنا أعني ما يمكن تطبيقه على الأرض .
كما يعلم الجميع فإن مصر السادات وقعت معاهدة كامب ديفيد عام 1977 ،وجرى تحييد مصر ،وقضي على العرب لأنه لا سلام ولا حرب بدون مصر،ومع ذلك لم نر سلاما حتى في ظل حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك.
كما وقعت م.ت.ف. إتفاقيات أوسلو وملحقاتها السرية والعلنية،وحددت مواعيد للحل النهائي ،لكن ما نراه حتى يومنا هذا وبعد نحو عشرين عاما ما هو إلا سراب فقط،إذ لا سلام ،بل رجعنا إلى المربع الأول.
وفي الأردن جرى عام 1994 توقيع معاهدة وادي عربة مع إسرائيل ولم نشهد سلاما على أرض الواقع ،بل جل ما نراه هو تطبيع إقتصادي وتنسيق أمني تحت التهديد الإسرائيلي ولا سلام .
إذن فإن الوصفة التي يسمح بصرفها من الصيدلية الإسرائيلية هي ،الوصفة الإقتصادية ،التي تؤهل الإنطلاق الإقتصادي لإسرائيل والخروج من أزماتها الإقتصادية وحالة التضخم التي تعاني منها.
اليابان وفي العام 2006 دخلت على خط السلام الإقتصادي ،بمشروعها المعروف ب"كوريدور السلام" على نهر الأردن ،والذي يبشر بتحويل هذه المنطقة إلى منطقة تجارية وصناعية متقدمة،وتضمن اليابان من خلال هذه الخطة بتنشيط الإقتصاد الفلسطيني ،وتامين تصدير المنتجات الفلسطينية إلى دول الخليج العربية والعالم ،ناهيك عن تنشيط الإقتصاد الأردني أيضا ،وسيكون للإقتصاد الإسرائيلي نصيب.
قبل أيام وعلى شواطيء البحر الميت القريب من نهر الأردن، كشف وزير خارجية امريكا السيناتور جون كيري في مؤتمر دافوس الإقتصادي عن خطة امريكا الجديدة للسلام القائمة على السلام الإقتصادي ،أي أن الإدارة الأمريكية وفي دورتها الثانية ،أحيت مشروع هيرتزل الداعي إلى كومنولث الشرق الأوسط والدمج الإقتصادي،وها هي وسائل الإعلام والمحللون والصالونات السياسية تتحدث عما يسمونه السلام الإقتصادي.
واشنطن ضاقت ذرعا بإسرائيل وإن لم يجرؤ أحد على إعلان ذلك،فإسرائيل هي "قرادة الخيل"التي تمتص دم امريكا وتنهب الضرائب الأمريكية ،إذ يبلغ حجم المساعدات المعلن عنها سنويا لإسرائيل 21 مليار دولار أمريكي،وهم يعلمون جيدا أن الخزينة الأمريكية لم تعد قادرة على تحمل الإنفاق الزائد على إسرائيل ،ناهيك عن وجود أصوات أمريكية تزداد يوما بعد يوم ،تحتج على النهب الإسرائيلي للخزينة الأمريكية.
لذلك أرادت أمريكا تحويل الضغط الواقع عليها إلى الدول العربية الخليجية الغنية ،التي هي على إستعداد لتنفيذ كل ما تطلبه واشنطن ،طلبا للرضا ،وضمان عدم الحركشة والمساءلة خاصة بعد ثورة الياسمين في تونس،والبرهان الساطع على أن أمريكا لا حليف لها.
في العام 1974 كشفت أوساط فلسطينية ،عن وثيقة جرى العثور عليها في قبرص ـتتحدث عن السلام الإقتصادي وتقول أن الضفة الفلسطينية مخطط لها أن تكون هونغ كونغ العرب،ولعل كيري في دعوته للسلام الإقتصادي أراد بعث هذه الوثيقة من جديد.
إنهم بهذا السلام الإقتصادي الذي رحب به العرب وخاصة الدول الغنية ،قد حولوا القضية الفلسطينية من قضية حقوق مقدسة ،إلى قضية جوع بمساحة رغيف الخبز الصغير الذي تنتجه بعض المخابز للشاورما بحجم اللقمة الواحدة.