البطالة زمان والآن
د.يوسف منصور
جو 24 : تعودنا في الأردن منذ بداية القرن الجديد على معدلات بطالة تفوق 10%، وهي معدلات بطالة مرتفعة وخطرة خاصة إذا ما استمرت، حيث تشير إلى بطالة هيكلية (متجذرة في النظام وممارسات مؤسساته الرسمية وغير الرسمية) ولكن هل تعلم أن معدل البطالة في الأردن كان لا يتجاوز 2 % في السبعينيات؟ دعونا نستعرض بعض الأرقام ونرى كيف حصل ذلك.
بلغ معدل البطالة 1.6 % حسب الأرقام الرسمية في 1976، أي أنه كان أقل من معدل نمو السكان الذي كان أكثر من ضعف معدل البطالة. أي أنك كنت لا تستطيع أن تجد كفايتك من العمال، فتبحث عن العمالة ولا تجدها. أيضا كان معدل النمو الاقتصادي الحقيقي يفوق 8.5 %، والغلاء يقارب 12 % مما يعني أن الاقتصاد كان يغلي بما فيه من نشاط وحيوية، وكان خريجو الجامعات يجدون الوظائف مباشرة (أحد الأسباب أن نوعية التعليم والتدريب كانت أفضل).
كنا قد بدأنا بتصدير عمالتنا بقوة إلى الخليج الذي ابتدأ آنذاك طفرة اقتصادية غير مسبوقة في تاريخه وربما منذ اكتشاف النفط لديه، حيث بدأت أموال النفط تتزايد نتيجة حرب أكتوبر، وقرار المرحوم الملك فيصل بقطع النفط عن أمريكا إن لم تتدخل لتخرج إسرائيل من مصر، ثم اتخذ قراره حين تلكأت أمريكا فارتفع سعر النفط وتحسن دخل العرب من النفط منذ ذلك الحين.
وكانت المساعدات العربية للحكومة تصل إلى نصف دخل الحكومة تقريبا، وكانت الضرائب قليلة وغير موجودة أحيانا.
كما كان أحد أسباب تدني البطالة في الأردن أن العمالة الأجنبية لم تكن قد اكتشفت السوق الأردني حتى ذلك الوقت، وكانت جميع الوظائف (نعم جميعها) للأردنيين، ولم يكن هنالك عمالة وافدة تذكر لدينا.
ولكن سرعان ما أخذ الوضع بالتغير، ولم تنتبه إليه الحكومات وربما ساندته لتحصل على رسوم أكثر من العمالة الوافدة، كما درجت العادة لدينا أن لا نقوم بالإصلاح إلا بعد أن تقع الحكومة في صعوبات مادية لأن أيام الرخاء آخر ما تفكر به التخطيط والتجهيز للمستقبل.
وبالفعل، بدأت بعد ذلك معدلات البطالة بالارتفاع مع استبدال العمالة المحلية بالأجنبية وارتفاع دخل الأردني من الخليج وتوجهه للوظائف الحكومية المريحة نسبيا، لتصل البطالة في عام 1981 إلى 3.9
%، ولتستمر في الصعود بتسارع كبير فتصل إلى 8 % في عام 1987، وتقفز إلى 10.3 % في عام 1989، حين سقط أيضا معدل النمو الحقيقي ليصبح سالب 10.7 %، وليسقط الدينار مع الإنفاق الحكومي غير المدروس وانتشار العمالة البديلة، وسياسات الحكومة التوسعية في التوظيف من غير حساب، وللأسف استمر الأثر على العمالة في 1990 ليقفز معدل البطالة إلى 16.8 %، والغلاء إلى 16.2 % وكان النمو الحقيقي سالب 0.3 %، ما أقساها من أيام في تاريخ الأردن الاقتصادي يجب أن لا تنسى.
ثم ارتفعت البطالة إلى 17.4 % في 1991، وهبطت إلى 15 % في 1992 مع بدء إنفاق مدخرات وتعويضات أهلنا العائدين من الخليج وتحقيق معدل نمو اقتصادي حقيقي بلغ 14.2 % وكان من أعلى معدلات النمو التي حققها الاقتصاد الأردني على مدى خمسين عاما.
ولكن سرعان ما ارتفعت البطالة لتصبح 19.2 % في عام 1993 بعد إنفاق مدخرات العائدين وفشل البنية الاقتصادية في التحرك وخلق الوظائف والاستفادة من هذه الأموال والاستثمارات التي ذهب معظمها إلى البناء وأدى إلى توظيف غير الأردنيين في مهنة البناء الشاقة واستمرار الحكومة (رغم مقولتها بعكس ذلك) في سياسات التوظيف غير الكفوءة.
وبعد كل ذلك بدأ القرن الجديد بمعدلات بطالة تراوحت بين 12.5 % في أحسن الأحوال و15.3 % في اسوأها وها نحن نرى البطالة ترتفع، والحكومة في نمو مستمر بينما لا يتجاوز معدل النمو الحقيقي للاقتصاد 2.7 %، وأعتقد أنه أقل من ذلك، كما أننا إذا استثنينا النمو الحكومي لوجدنا أن نمو القطاع الخاص سالب أو قريب من الصفر خاصة وأن قطاع الصناعة التحويلية مستمر في الخسارة لعامه الثالث.
يبين التاريخ لنا وأرقام البطالة أن العودة إلى معدلات بطالة متدنية ممكن جدا. وفي الوقت الحالي يجب على الحكومة أن تعود عن سياستها "التقشفية" التي ثبت فشلها في العالم، وأن تحسن من نوعية الإنفاق لديها، وأن تعمل بسرعة على زيادة دخل المواطن الحقيقي، وإلا فكل ما تقوم به لن يتجاوز كونه عمليات تجميل ستؤدي إلى نتائج وخيمة وبعجالة، ولقد أعذر من أنذر. (العرب اليوم)
y.mansor@alarabalyawm.net
بلغ معدل البطالة 1.6 % حسب الأرقام الرسمية في 1976، أي أنه كان أقل من معدل نمو السكان الذي كان أكثر من ضعف معدل البطالة. أي أنك كنت لا تستطيع أن تجد كفايتك من العمال، فتبحث عن العمالة ولا تجدها. أيضا كان معدل النمو الاقتصادي الحقيقي يفوق 8.5 %، والغلاء يقارب 12 % مما يعني أن الاقتصاد كان يغلي بما فيه من نشاط وحيوية، وكان خريجو الجامعات يجدون الوظائف مباشرة (أحد الأسباب أن نوعية التعليم والتدريب كانت أفضل).
كنا قد بدأنا بتصدير عمالتنا بقوة إلى الخليج الذي ابتدأ آنذاك طفرة اقتصادية غير مسبوقة في تاريخه وربما منذ اكتشاف النفط لديه، حيث بدأت أموال النفط تتزايد نتيجة حرب أكتوبر، وقرار المرحوم الملك فيصل بقطع النفط عن أمريكا إن لم تتدخل لتخرج إسرائيل من مصر، ثم اتخذ قراره حين تلكأت أمريكا فارتفع سعر النفط وتحسن دخل العرب من النفط منذ ذلك الحين.
وكانت المساعدات العربية للحكومة تصل إلى نصف دخل الحكومة تقريبا، وكانت الضرائب قليلة وغير موجودة أحيانا.
كما كان أحد أسباب تدني البطالة في الأردن أن العمالة الأجنبية لم تكن قد اكتشفت السوق الأردني حتى ذلك الوقت، وكانت جميع الوظائف (نعم جميعها) للأردنيين، ولم يكن هنالك عمالة وافدة تذكر لدينا.
ولكن سرعان ما أخذ الوضع بالتغير، ولم تنتبه إليه الحكومات وربما ساندته لتحصل على رسوم أكثر من العمالة الوافدة، كما درجت العادة لدينا أن لا نقوم بالإصلاح إلا بعد أن تقع الحكومة في صعوبات مادية لأن أيام الرخاء آخر ما تفكر به التخطيط والتجهيز للمستقبل.
وبالفعل، بدأت بعد ذلك معدلات البطالة بالارتفاع مع استبدال العمالة المحلية بالأجنبية وارتفاع دخل الأردني من الخليج وتوجهه للوظائف الحكومية المريحة نسبيا، لتصل البطالة في عام 1981 إلى 3.9
%، ولتستمر في الصعود بتسارع كبير فتصل إلى 8 % في عام 1987، وتقفز إلى 10.3 % في عام 1989، حين سقط أيضا معدل النمو الحقيقي ليصبح سالب 10.7 %، وليسقط الدينار مع الإنفاق الحكومي غير المدروس وانتشار العمالة البديلة، وسياسات الحكومة التوسعية في التوظيف من غير حساب، وللأسف استمر الأثر على العمالة في 1990 ليقفز معدل البطالة إلى 16.8 %، والغلاء إلى 16.2 % وكان النمو الحقيقي سالب 0.3 %، ما أقساها من أيام في تاريخ الأردن الاقتصادي يجب أن لا تنسى.
ثم ارتفعت البطالة إلى 17.4 % في 1991، وهبطت إلى 15 % في 1992 مع بدء إنفاق مدخرات وتعويضات أهلنا العائدين من الخليج وتحقيق معدل نمو اقتصادي حقيقي بلغ 14.2 % وكان من أعلى معدلات النمو التي حققها الاقتصاد الأردني على مدى خمسين عاما.
ولكن سرعان ما ارتفعت البطالة لتصبح 19.2 % في عام 1993 بعد إنفاق مدخرات العائدين وفشل البنية الاقتصادية في التحرك وخلق الوظائف والاستفادة من هذه الأموال والاستثمارات التي ذهب معظمها إلى البناء وأدى إلى توظيف غير الأردنيين في مهنة البناء الشاقة واستمرار الحكومة (رغم مقولتها بعكس ذلك) في سياسات التوظيف غير الكفوءة.
وبعد كل ذلك بدأ القرن الجديد بمعدلات بطالة تراوحت بين 12.5 % في أحسن الأحوال و15.3 % في اسوأها وها نحن نرى البطالة ترتفع، والحكومة في نمو مستمر بينما لا يتجاوز معدل النمو الحقيقي للاقتصاد 2.7 %، وأعتقد أنه أقل من ذلك، كما أننا إذا استثنينا النمو الحكومي لوجدنا أن نمو القطاع الخاص سالب أو قريب من الصفر خاصة وأن قطاع الصناعة التحويلية مستمر في الخسارة لعامه الثالث.
يبين التاريخ لنا وأرقام البطالة أن العودة إلى معدلات بطالة متدنية ممكن جدا. وفي الوقت الحالي يجب على الحكومة أن تعود عن سياستها "التقشفية" التي ثبت فشلها في العالم، وأن تحسن من نوعية الإنفاق لديها، وأن تعمل بسرعة على زيادة دخل المواطن الحقيقي، وإلا فكل ما تقوم به لن يتجاوز كونه عمليات تجميل ستؤدي إلى نتائج وخيمة وبعجالة، ولقد أعذر من أنذر. (العرب اليوم)
y.mansor@alarabalyawm.net