والدي حين انتصر بالصبر
د.عبدالله الزعبي
جو 24 :
كاد حلم الطفولة يقتل والدي حين طارده في سباق العمر نحو النهاية؛ لاحقه في زقاق الأيام حتى أنتصبت الرجولة وقوي العود واشتد، إذ كان يسرح فيه خيال اليتم في مروج جنان وقطوف دانية، يذهب الحلم به بعيداً هرباً من برودة الفقر وقرصات القفر الذي ابتلع الحنان والحضن وتركه وحيداً مع الحرمان.
مقدام كان والدي حين اقتفى أثر الحلم في ريعان الصباح عندما كان يوقظ الفجر، يحتسي معه أنسام القهوة على أنغام السيجارة الشرهة وسيمفونية السعال التي كانت تنساب مع حشرجات الفكر والقلق، ثم وحيداً يمتطي أبا العبد، أو هكذا كان يلقبه، ذاك البكب الوفي الذي رافقه في مسير ربع قرن، على طريق حمل الخير يوماً بين بغداد وحيفا، في باكورة الفلق ينطلق مسرعاً من دعة الراحة في الرمثا الى فاع على مسافة عشرين، تلك القرية المسكينة التي تقطن على اطراف البداوة وحدود النسيان.
منها كان أبي يعبر إلى جنته الخضراء التي راودته عن نفسه في ذاك الحلم الذي غسل اليتم، فتستقبله آلاف الأشجار استقبال الفاتحين؛ إذ كانت اشجاره الوحيدة دون البشر تحن عليه، ويحن إليها، قد سقاها من ماء عينيه؛ إذ هذب لها الصحراء وروض البوار، بقلبه ويديه وكل جوارح الأمل والروح سوى لها الحفر وغرس النبت، قلَمَ العشب عن جسدها الغض بكفيه، بعرق جبينه مسح دموع الندى عن الغصن والورق، من أحشاء النبع السحقيق أورد إلى عتباتها الماء، فكان الثمر أن وهب جنته الحياة، فأضحت عشقه وملاذه، تسمع لشكواه وأنين الوحدة في أعماقه، تنصت لأزيز الحسرة في أنفاسه التي تعبت من ضيق العيون وأنياب الحسد، ونفس كريمة تلوعت من سفاسف التفاهة وضحالة المكارم في قطيع الضغينة، حتى تسلسل لجسده السرطان، من ثنايا القهر إنسل اللعين إلى الرئتين، ورويداً تهيأ الخبيث ليهزم العزيمة ويفتك بالكرم والرحم، ويطوي صفحة من رجولة في زمن العنة والذكورة الصماء.
توشح والدي بالصبر وامتشق سيف الإيمان، وقف منتصباً أمام القدر والمنية وقطار الليل. حينئذ انتصر له الشجر في جنة فاع بالدموع والدعاء، تضرع يومها الزيتون والعنب، الأخضر منه والأسود وسائر الطيف واللون، حتى الكرز والأجاص والدراق، وجموع أفراد المحصول الذي إنتهى في جيوب السماسرة والجشع، ومن على صهوة الجواد وقمة الطود، أقبل نداء السماء للفارس والشموخ، بالبشرى أن إدحر الكرب وألجم ضيق الظلم والظلام، براحتيك ذوات الشكيمة وخفقات الشجر، أخنق السقم وطهر الجسد من الداء اللعين، فجواد مثلك لا يهزمه خبيث، ولا يقدر على الطيب فيك إلا الطيب.
كان والدي قصة وطن حار بين البطولة والظنون، تاه في دروب الأمس يبحث عن الفروسية في هوامش مجد زائف، بحث عن السراب طويلاً في البشر فلم يجد سوى الشجر. واليوم أجد نفسي أفتش عن سري في والدي، اطارد السلوى والعزاء في القصص التى كان يرويها عن الحياة وعن الناس وعن الشجر.
قصة بعينها دوماً تستوقفني؛ إذ ذات ضحى زاره في مزرعة الحلم الراحل مروان دودين، وزير الزراعة حينها، وحين أُخذ بما رأى من الخضراء الشاسعة في صميم العطش، وإنبهر بالشجر، قال لوالدي: "أنت فعلاً مجنون، أنت مجنون الصحراء، فلم أر في حياتي غيرك حاكى صبر أيوب وكاد يغلب اليهود". عللاني فذاك والدي حينما انتصر بالصبر، وهأنذا اليوم أنقب عن سري في سر ذاك النصر.